خلال عشرين عاماً تقريباً من وجودي في اليمن أيقنت أنني لست وحدي من تبهره بساطة اليمنيين, بل كل من دخلها من عرب وأجانب خرجوا بنفس الانطباع, وهو ما يجعلني اليوم أتساءل: إن كنا مجمعين على بساطة اليمنيين فما الذي يجعل حال اليمن معقداً, وما أن تخرج من مشكلة حتى تدخل غيرها..!؟
قد تختلف نظرتي قليلاً عمن يعلقون على شحة موارد البلاد والمواريث التاريخية أسباب كل الأزمات والتحديات، كما لا أجد في منطقي الحاكم والمعارضة تشخيصاً دقيقاً للأوضاع وقد اختلف أيضاًَ مع الشاكين من ندرة الكوادر والخبرات الوطنية وتفشي الجهل، فتلك كلها هموم تتكفلها الحكومات ببرامج وطنية وخطط لا ترتقي إلى مستوى التعقيد اليمني الذي يكاد يبقي كل شيء معلقاً ويراكم الأمور فوق بعضها البعض.
في تقديري الشخصي إن أكبر عيوب اليمن هو جمود معظم مفاصلها عند خط زمني قديم، بات يشكل سداً منيعاً أمام أجيالها يحول دون عبورها إلى المستقبل أو على أقل تقدير يعيق حراكها، وأقصد أن نخب المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية يكاد يكون معظمها من الجيل المخضرم الذي استهلك زمانه وفرصه وأمسى يفتقر لمهارات وكفاءات المراحل المتطورة من الحياة.
فالنخب التي تدير معظم المؤسسات والهيئات ظلت هي نفسها تتداول المواقع القيادية منذ سنوات طويلة جداً .. كما أن النخب السياسية التي تقود مختلف الأحزاب اليمنية ظلت هي نفسها على رأس الأمانات العامة منذ تأسيس أحزابها قبل أكثر من عقدين وحتى هذه اللحظة، والحال نفسه في الجمعيات والمنظمات، والمؤسسات الثقافية.. فيما على الصعيد الاجتماعي وعلى امتداد أكثر من عقدين حافظ المشائخ والوجهاء على نفوذهم، كما ظل الغني غنياً والفقير فقيراً، وابن الجزار جزاراً... إلخ، وهو الأمر الذي يؤكد جمود مفاصل الحياة اليمنية التي بيدها صناعة طقوس الأمن والسلام والحرب والخصام، وغير ذلك.
وطالما وأن الأدوات ذاتها التي كانت قائمة قبل عشر أو عشرين سنة هي نفسها المناط بها مسئوليات الحياة اليمنية فإن من الصعب الرهان على مخرجات مختلفة عن الماضي لأننا كمن سيراهن على أبوين من ذوي البشرة السوداء بأن ينجبا طفلة شقراء بعينين زرقاويين !
المسألة الأخرى هي أن التعايش الطويل بين تلك النخب مع بعضها البعض ولّد لغة تفاهم ومصالح مشتركة حتى وإن كانا حزبين متضادين فهما يتحالفان بمجرد استشعار خطر التغيير والنمط الجديد من الحياة طالما فيه هلاكهما.
ومن هنا وجدنا أنه بمجرد أن وثق المجتمع في عام 2006م بأن قيادة الدولة جادة فعلاً في توجهاتها لشن حرب على الفساد وتنفيذ اصلاحات واسعة تحالفت جميع قوى الفساد الموجودة داخل القطاعين العام والخاص وفي الأحزاب والمنظمات وفجرت أزمات سياسية وتجارية وثقافية وجرّت اليمن إلى وضع خانق أعاق الاصلاحات وشغل أجهزة البلد وقواه الشعبية بالهموم الأمنية والاقتصادية وغيرها.
إن من يندمج في أوساط المجتمع اليمني يفاجأ بكوادر عملاقة بحق لكن عندما يبحث ضمن مواقعها المهنية يجد أن النخب المخضرمة في أحزابها أو مؤسساتها تستغل طاقاتها وتسلبها إبداعها لتعيد تقديمها باسمها لتظهر أمام صناع القرار الأول في الدولة أو أمام الجماهير بمظهر الشخصية المتطورة المواكبة للعصر، وهذا أمر قاتل للحياة المدنية والحضارية للمجتمع، حيث إن الجيل اليمني الثاني الذي تعلم في زمن الثورة والوحدة ومنه من أكمل دراسته في الخارج واكتسب خبرة وثقافة مازال عاجزاً عن تجاوز سد النخب المخضرمة في الوقت الذي هو جيل التطوير والحوار الذي لا يحمل أمراض العصبيات الانتهازية التي ترى ان بقاءها بأحزابها أو تجارتها أو مؤسساتها الحكومية مشروط ببقاء الازمات والمشاكل.. وما لم يتحرر اليمن من حالة الجمود فإنه لن يتحرر من الازمات.