قصة إيران الحديثة، هي قصة “الدولة الحديثة”، باعتبارها البرزخ الشرطي في أي تجربة وطنية جادة للعبور من بدائية العصور الوسطى إلى مكان لائق ومكانة محترمة في العالم الحديث.
في مطلع القرن الماضي لم يكن هناك في إيران ما يصح أن نطلق عليه جدياً مصطلح الدولة، كان الشاه يحظى بمكانة اعتبارية، ويحكم بواسطة ما يشبه “الأقيال”، الحكام الفعليين، زعامات قوى قبلية وطائفية ودينية وقومية ومناطقية وشللية.. تتقاسم خارطة إيران الكلاسيكية، وتتناحر على السلطة والنفوذ والموارد.. فيما سلطة الشاه لا تصل إلى أطراف العاصمة “طهران”. مراكز قوى من كل شكل، وصراعات من كل نوع، واستقطابات وأزمات من كل درجة، وفوق ذلك حدثت ثورة غير راشدة أطاحت بالبقية الباقية من هيبة الدولة والاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي، حتى لم يعد هناك من يمكنه مواجهة العصابات وقطاع الطرق، لكن وفي فترة قياسية، لا تتجاوز العقدين، (1923 : 1943م)- وهذا هو الأمر المشجع في التجربة الإيرانية الحافلة بالمفارقات والأرقام القياسية- تغيرت كل تلك المؤشرات المحبطة إلى النقيض، بما يشبه طفرة هائلة دفعت بإيران مرة واحدة من خارج التاريخ إلى مصاف الدول الحديثة، على المستوى الداخلي، وهو الأهم، خرجت الدولة من شرنقتها البدائية المحشورة في العاصمة لتصل بنفوذ وخدمات مؤسساتها إلى أبعد منطقة ريفية نائية، وعلى المستوى الخارجي أصبحت إيران قوة مؤثرة ورقماً صعباً على المستويين الإقليمي والدولي. تغيير جذري وشامل ومتسارع بمثابة ملحمة لا تقل روعةً عن ملحمة “الشاهنامة” التي كانت إحدى مصادر إلهام “الشاه رضا بهلوي”، بطل الدولة الحديثة وبطل المرحلة، بل أحد أهم أبطال التاريخ الإيراني في كل العصور.! كان “بهلوي” مستبداً مستنيراً، وعلمانياً صارماً فيما يتعلق بسيادة الدولة ووظائفها، وتمكّن بوسائل مشروعة وربما غير مشروعة من إزاحة كل مراكز القوى التقليدية التي كانت تتنازع وتنازع الدولة هيبتها وسلطتها، بدون تسييس لقضية الدولة، أو مساومة حول حقها الحصري في احتكار القوة والقرار، ما فعله “الشاه بهلوي” بشكل جوهري هو أنه لم ينقلب على الشاه السابق فقط، بل على نظامه والثقافة القروسطية التي أنتجته، فأحل الدولة محل مراكز القوى التقليدية، بواسطة مؤسسة عسكرية قوية وموحدة، وهذا في الواقع هو حجر الأساس الحتمي لأي مشروع دولة حديثة، والمقدمة الضرورية التي تتيح للحداثة أن تحدث، في أي تجربة، بشكل عفوي وتراكمي في مختلف المجالات وعلى كل المستويات.