اعتمد الأجداد في تأكيدهم لما ينقلون من أحاديث ووقائع وحكايات على ما أسموه (العنعنة) أي نسبة ما يقومون بروايته إلى من تم الأخذ عنهم أو النقل منهم كأن يقولوا عن فلان، عن فلان إلى أن يصلوا إلى القول، إن فلاناً قال... أو إنه حدث كذا وكذا.. ولتوضيح ذلك واختصار للأمر، نشير إلى اعتماد رواة الحديث الشريف على العنعنة.. كقولهم عن فلان عن فلان.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..الخ واعتماد أبي الفرج الاصفهاني صاحب المجلد الشهير(كتاب الأغاني) على نفس الأسلوب في رواياته، للمواقف والحكايات التي سردها للتعريف بظروف وحالات ميلاد القصائد والأبيات والغنائيات التي اشتمل عليها كتابه الشهير(الأغاني)، وبرغم ذلكم الجهد وتقصي الرواة واعتمادهم على العنعنة لم تسلم ما تمت روايته من حكايات ومواقف من التشكيك والنقد حتى الأحاديث النبوية، لم تسلم من التشكيك ولم يتوقف الأمر على ما رواه الإمامان البخاري ومسلم وسميت بـ(الصحيحين) وكان ما دونهما محل نظر، بل صرنا نقرأ ونسمع عما يقال عنها أحاديث ضعيفة الرواية، وأحاديث موضوعة وأخرى مدسوسة وحديث حسن وحديث متواتر، وغير ذلك من المسميات التي يتجادل فيها العلماء وفقهاء الحديث إلى يومنا هذا، وأخذ الشك والتشكيك مناحيٍ مختلفة، وتنوع كتنوع الدوافع والمصالح، وهذا ما يستحضر أمامنا المقولة الفلسفية الشهيرة «لو تعارضت مُسلَّمة 1+1=2 مع مصالح البعض، لشككوا في صحتها».
وكما تشعبت وتنوعت ميادين التشكيك عند العرب كغيرهم من الأمم، فقد تفننوا واخضعوا لتشكيكهم هذا حتى مفردات اللغة، ففرقوا بين كلمتي(خبر) و(نبأ) فقالوا إن النبأ هو الصادق فيما يقول أو يحمل، أما الخبر فهو ما يحتمل الصدق والكذب مستندين إلى قول الله تعالى{وجئتك من سبأ بنبأ يقين}.
كل هذه المقدمة، من أجل أن نقول للزملاء الأعزاء من صحافيين (ورقيين والكترونيين) ومراسلي وكالات ومخبرين صحافيين وغيرهم من ناقلي الأنباء والأخبار والوقائع.. إذا كان من سبقوكم بما فيهم رواة الحديث لم يسلموا من التشكيك في ما رووه ونقلوه ووثقوه لمن بعدهم.. رغم تحصنهم بالعنعنة المتسلسلة بقولهم في الرواية عن فلان بن فلان، عن فلان بن فلان إلى أن يصلوا إلى صاحب الشأن أو المصدر، فما بالنا بكم اليوم وقد صرتم تروون أو تنقلون الخبر بإسناده إلى شاهد عيان، أو مصدر في المكان الفلاني أو ناطق رسمي، أو مسؤول طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول للحديث في الموضوع ..الخ، ألستم أكثر عرضة للتشكيك والتكذيب بل والتهكم المسيء وقد اعتمدتم ـ مع تطور العصرـ على أن من حق الصحافي عدم الإفصاح عن مصدره في الخبر أو الكشف عن اسمه كما تطالعنا الأخبار والوقائع التي تنقلونها للناس عبر صحفكم ومواقعكم.. بل إن التشكيك في ما تنقلونه وتكذيبه صار أكثر سرعة وفي أقل من يوم بل أقل من ساعات معدودة وهاكم أقرب مثل على ذلك وهو الخبر الصاعقة إن صحت تسميته كذلك والذي نشر وتناقلته الوسائل الإعلامية يوم الأربعاء الماضي 18 /6 /2014م ومفاده أن أربعين عملية تهريب أسلحة منها سبع عشرة عملية تمت عبر وزارة الداخلية، قد تم كشفها منذ العام 2011م بالمصادفة أو بالصدفة وحدها وأن تلك الأسلحة المكتشفة يحوي بعضها على أسلحة لا تستخدمها إلا الجيوش ـ كقذائف الدبابات ونحوها ـ وأن عمليات التهريب تلك المكتشفة بالصدفة، تخص نافذين ومراكز قوى وأسماء تجار وهميين وشخصيات دينية .. إلخ، هذا الخبر المفزع والذي ينم عن وجود أضعاف أضعاف عمليات مشابهة، لم تكتشف وإنها قد وصلت إلى أصحابها، سرعان ما جاء تكذيبه في اليوم التالي « الخميس 19 /6 /2014م» من قبل وزارة الداخلية التي قالت إنها لم تستورد أي أسلحة لا قديماً ولا حديثاً وإن ما نشر عن الموضوع منسوب إلى مصدر أمني رفيع هو محض كذب وافتراء ولا أساس له من الصحة ..إلخ. هكذا جاء التشكيك بل التكذيب سريعاً للخبر، والمصدر المنسوب إليه، والصورة التي أظهرت عدداً من الجنود على ظهر قارب قيل إنهم يتفحصون الأسلحة المهربة.
لن أخوض في الموضوع دفاعاً عن ناشر الخبر الذي غمزه رد وزارة الداخلية بتهم غير هينة، ولا عن وزارة الداخلية التي قال تكذيبها إنها تحتفظ بحقها في التقاضي.
ولكني أنوه إلى أننا نعيش واقعاً جعل سهولة التشكيك في الخبر وتكذيبه لا يختلف عن سهولة صنع الخبر ونشره، كون العملية يكسوها ـ في الحالتين ـ الغموض وحجب المصدر، وبهذا ستظل في دوامة الأخذ والرد والتشكيك المستمرة منذ عصر العنعنة. هذا ما أراه، كما أرى حجة ناقلي الأخبار الصحافية “ الورقية” هي الأقوى ما دامت الجهات المعنية عندما تضع يدها ـ عن طريق الرصد والمتابعة أو المصادفة ـ على جريمة تهريب أسلحة أو مواد محضورة أو أي جريمة مخلة بأمن الوطن وسيادته، لا تأتي بالمعلومة كاملة، وكان من حقها ألا تكشف عن المتورطين بالاسم والصورة.