قبل أشهر انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي تسجيل مصوّر لشاب كان يحاول إطلاق النار في الهواء بحفل زفاف في تعز؛ لكنه تمايل وصوّب سلاحه تجاه الحضور مصيباً عدداً منهم، ووفقاً لمسؤول أمني فقد كان الشاب واقعاً تحت تأثير حبوب مخدّرة دمّرت حياته وحياة أسرته، تماماً كما بعض من أصابتهم طلقاته الطائشة، الحادثة تكشف جانباً من التبعات الكارثية الوخيمة لتعاطي المخدّرات.
وحين يتحدّث المسؤولون عن تعاطي المخدّرات باعتباره ظاهرة في أوساط المجتمع لا يمكن إنكارها؛ فذلك يعني أن البلاد تعيش خطراً داهماً يهدّد جيلاً بأكمله تقتضي مواجهته بصرامة للحد من خطره، وصولاً إلى محاصرته قبل أن يتسع الخرق على الراقع وتصعب مهمة احتواء الخطر.
الأسبوع الماضي احتفلت اليمن باليوم العالمي لمكافحة المخدّرات، كان مفترضاً أن هذا اليوم يكون مناسبة لدق ناقوس الخطر إيذاناً بتدشين حملات شاملة تشارك فيها جميع السلطات المعنية بدرجة رئيسية، وتشحذ لها كل الإمكانيات المتاحة لمواجهة الظاهرة التي توشك أن تجهز على المجتمع؛ لا أن تُستهلك في فعاليات نمطية لتبادل كلمات رسمية تستعرض المخاوف والهواجس وتتحدّث عن ضرورة المشاركة الرسمية والمجتمعية في مكافحة المخدّرات..!!.
إحصائيات صادمة ومرعبة أعلنتها الإدارة العامة لمكافحة المخدّرات عن الكميات التي ضبطتها خلال السنوات الخمس الأخيرة، في الفترة 2008 ـ 2013م أتلفت السلطات 40 طناً من الحشيش تقريباً، ومعها 14 مليون قرص مخدّر، وهناك 20 طناً من الحشيش وملايين الأقراص المخدّرة تنتظر أحكاماً قضائية لإتلافها.
وإذا كانت كميات مهولة كتلك ضُبطت خلال تلك الفترة وكانت كفيلة بضياع عشرات وربما مئات الآلاف من الناس، وخصوصاً فئة الشباب الأكثر تعرُّضاً لهذا الوباء في ظل تفشّي البطالة وضعف التوعية والرقابة والحساسية الرسمية والاجتماعية؛ فكم هي الكميّات التي تسرّبت إلى أوساط الناس، وماذا عن عدد ضحاياها المحتملين..؟!.
يُجمع مسؤولو الأمن والصحة والتعليم في تعز وعدن أن تعاطي المخدّرات غدا ظاهرة في المحافظتين، وفقاً لتصريحات وردت في تقرير نشرته شبكة الأنباء الإنسانية «ايرين».
كشف التقرير معلومات تثير الهلع، فمسؤولو الصحة في المحافظتين يشكون العبء الإضافي على الخدمات الصحية المتواضعة أساساً نتيجة تزايد حالات الإدمان، ونائب مدير أمن تعز يتحدّث عن شبكات متشعّبة لتسويق وبيع المخدّرات تنجم عنها حوادث عنف وجرائم أخرى، على أن الظاهرة ليست حكراً على المحافظتين.
الأمر لم يعد خافياً على أحد، فرئيس جامعة تعز الدكتور محمد الشعيبي أكد لشبكة ايرين أنه “اضطر” إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة المخدّرات في حرم الجامعة، وأن تصل جُرأة مافيا المخدّرات إلى حد استهداف الجامعات التي يُفترض أن الدارسين والعاملين فيها هم الأكثر وعياً بخطورتها؛ فذلك يعني أن المخدّرات أصبحت معروضة في الأحياء والشوارع تماماً كعلب السجائر، ولا تقتصر على الصيدليات..!!.
ثمّة أصناف كثيرة من الأقراص المخدّرة التي تسوّقها المافيا بأسماء برّاقة تستهوي الشباب كـ«التمساح، القذافي، والتدفُّق الأحمر، والزهرة الصفراء، وغيبوبة الملك».
وفي اليمن يتفنّن غواة إفساد الأجيال والمرابحين بمستقبلهم في ابتكار خلطات ومشروبات مخدّرة، وذلك بخلط أصناف من الأدوية كحبوب النوم والمسكّنات وعقاقير الهلوسة وتخفيف القلق، وأحياناً مع المشروبات أو الكحول الطبي «الاسبرتو» لتؤدّي مفعول المواد المخدّرة، وتدخل جميعها في بورصة المرابحة بحياة الناس ومستقبلهم..!!.
الحكومة كمنظومة متكاملة تتحمّل مسؤولية رسم وتنفيذ استراتيجيات خاصة لمكافحة المخدّرات، وتحفيز الاستثمار وتوفير فرص عمل ومتنزّهات للشباب، والارتقاء بالتعليم والخدمات الصحية، وضبط الانفلات الأمني، والاستفادة من تجارب دول أخرى في هذا المجال بما يوفّر بيئة متكاملة طاردة لهذا الخطر.
وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية معنية بدرجة رئيسة بالتعامل الصارم مع هذه الظاهرة الإجرامية بدءاً بمكافحة التهريب - بالتعاون مع قوات الجيش وحرس الحدود والجمارك - وضبط مافيا الاتجار وشبكات التوزيع.
أجزم أن لدى أجهزة الأمن في مختلف المدن قائمة أولية بأسماء المتورطين في تجارة المخدّرات يمكن البناء عليها لتفعيل دورها ومتابعة خيوط المافيا، على أن تتكامل مسؤوليتها مع النيابة العامة والمحاكم لفرض أقصى العقوبات على المتورطين كعامل ردع مؤثّر في مواجهة عصابات الاتجار والتوزيع.
وزارة الصحة معنية بتجاوز سلبيتها وأدائها الهزيل بفرض مراقبة سوق الأدوية السائبة، وضمان صرف الأدوية والعقاقير وفقاً لوصفات طبية، ومحاسبة الصيدليات والمورّدين على الكميات المباعة، خصوصاً تلك التي تُستخدم في الخلطات المخدّرة.
ويقع على عاتق مؤسسات الإعلام الرسمي والأهلي القيام بمسؤولية التوعية الشاملة والمتكاملة؛ كذلك الأمر بالنسبة لخطباء المساجد وأساتذة المدارس والجامعات، وكل شخص أو جهة تمتلك القدرة على إيصال الرسالة إلى المجتمع لحشد رأي عام يواجه الظاهرة ويحاربها.
هذه الظاهرة ينبغي أن تُحاصر وتُواجه بقوة، والمجتمع بأسره ليس بمعزل عن المسؤولية فيها؛ إذ لا أحد في مأمن من تبعات التراخي فيها، فأبناء المسؤولين كأبناء العامة جميعهم معرّضون لهذا الخطر القاتل الذي يهدّد مستقبل الأجيال، وليس من المبالغة القول إنه يهدّد الأمن القومي للبلاد.