غزة كعادتها تتعذب..
ولقد أصبح لكل بلد عربي غزته الخاصة.. تلك أقدار شنيعة تصاغ لهذه المنطقة المنكوبة على يد الاستعمارين الخارجي والداخلي معاً.
...
ذات قصف رهيب على غزة حدثني صديقي الغزاوي محمود ماضي، قال: ستنتهي الحرب بعد قليل، وسنعود إلى ذات السلوكيات الصباحية الاعتيادية لنكتشف أن الشوارع ما تزال على حالها، مع اختفاء لبعض المنازل من المشهد، وسنرى الأشجار التي اعتدنا خربشة أسمائنا على جذوعها، وسنفتقد بعض الأصدقاء الذين ستعلق صورهم على امتداد البصر.
ثم سنمضي إلى حتفنا وسيمضون هم إلى حكاياتهم الجديدة.
كان صديقي بكبرياء حزنه النبيل المعتاد يتحدث متهكماً وممتلئاً من الداخل رغم أهواله وفقداناته الرهيبة، بينما كنت أعرف أن غزة تضع العالم كله في المحك، ولا عالم ولا محك للأسف.
الأنكأ أن العرب لا يمتلكون سوى الحزن على غزة، الحزن المتشنج السريع والضجيجي، الحزن الذي يصير مع الأيام حزناً خاوياً ادعائياً لئيماً ،يتواشج تاريخياً بمحطات من الخيانات والتفريط والتهريج، وها نحن نرى الاشمئزاز المتبادل بين السنة والشيعة مثلاً أكبر من الاشمئزاز المتبادل بينهم والكيان الصهيوني الغاصب.
والمعنى أن سنة المسلمين وشيعتهم مجرد برابرة في استغلال المأساة الفلسطينية لا يفرقون كثيراً عن بربرية الكيان الصهيوني نفسه.
...
إن هموم الوجود كله يتكثف في غزة وغزة تحرسنا جميعاً، أكثر حنكة من الأمل وأقل تطرفاً من الأساطير.. كل هذه الحيرة المهووسة بالحياة في عز الموت ..كل إنسانيتنا العقيمة جداً، وكل ذلك التوازن الحلمي الأصعب، وأفقنا الشخصي الجماعي المحاصر والمثخن باحتمالات الخيبات والفجائع ليس إلا.
...
إلهي أنقذ أصدقائي في غزة فقط..
وليس من حيلة أخرى للفلسطيني العظيم الذي «يمد يده للمنقذ فتعود إليه بلا أصابع» سوى أن يعطينا دائماً الدرس الأكثر أهمية في الحياة، غير أننا كشعوب وكدول بلا أدنى نباهة لنفهم ونستوعب كما ينبغي.
fathi_nasr@hotmail.com