تحل هذه الأيام الذكرى السابعة لرحيل الدكتور فرج بن غانم، رئيس الوزراء الأسبق. والحاصل أنني أعتز بسيرة الرجل،لأنه أتقن روحه ولم يخسرها.
ثم إنه كسر قاعدة الطاعة المرسخة للحاكم آنذاك، إذ قال “لا” ولم يعرف التأتأة، كما لم يكن من كائنات أنصاف المواقف، وإنما ظل دائماً يشير إلى وهننا الجمعي ،فاضحاً لمكامن الخلل المريعة وهي تعيقنا عن التقدم.
ثمة إجماع شعبي ووطني جارف حوله وقيمته المعنوية ومن ينكر ذلك ما هو إلا أعمى أو يتعامى. لكنه التاريخ خير منصف بالتأكيد لواحد من خيرة الذين أنجبتهم اليمن ويحق للأجيال الافتخار به وبمسلكه الناصع.. معلومٌ أن لا نجاة من التلوث في السياسة اليمنية، كما لا أبغض من الذين يحكمون الخناق على مزاوليها وبالذات الشرفاء كيما يرضخونهم، وعلى رأس هؤلاء الشرفاء يأتي الدكتور فرج بن غانم الذي استطاع النجاة بأداته الفارقة فيما قام بانزياحه الخصوصي، باطشاً عبر اعتداده الداخلي العميق، بكل قيم الثبات اللعينة المسببة لتدهور البلد، وحائزاً على احترام كل الوطنيين بأطيافهم المختلفة جراء ذلك.. فحين كان رئيساً لمجلس الوزراء على سبيل المثال كان بإمكانه الثراء الفاحش،, إذ كان له أن يتواءم مع معطيات آكلي كتف البلاد فقط. لكن شهوته ظلت مفتوحة على المبدأ و الكرامة والصدق والولاء الناضج، فضلاً عن انه بكفاءته كواثق وعفيف - وهو ليس بإمعة بالمطلق- ظل يفضح أزلام الخراب، بينما ظلوا يكيدون له..مطلع أغسطس 2007 فارقنا هذا الرجل الاستثنائي الذي تبوّأ أرقى مراتب العلم والجسارة والالتزام المهني كونه من أهم رجالات التكنوقراط في تاريخ اليمنيين المعاصر، والثابت أنه كان العصي على التزور فلم يستطع أحد تجييره سوى الصدق والنزاهة - منذ إن كان وزيراً للتخطيط وعضواً في مجلس الشعب في دولة الجنوب قبل الوحدة وكذا ما بعد العام 90م كعضو بارز في البرلمان ووزيراً للتخطيط أيضاً، مروراً برئاسته للحكومة ووصولاً إلى المندوبية الدائمة لدى المقر الأوروبي ومن ثم الاتحاد الفيدرالي السويسري.. من محطة إلى محطة غرس مساعيه الأخلاقية في السياسة والإدارة والدبلوماسية والحياة النيابية، ناشراً المُثل العليا في كيفية التعامل مع الناس وعدم الالتفاف عليهم، حتى بات طريقه ضوءاً لممكنات النهوض الحق في هذا ذلك الزمن المعتم والانحداري..لقد أخلص للمدنية وللشفافية ولمقتضيات التنوير والتصحيح والتطوير والتغيير في الأوضاع المالية والإدارية، كما نال بعقليته الاقتصادية والتخطيطية الفذة ثقة المانحين والمجتمع الدولي، و لم يغدر بالناس مخاصماً لسياسة الفهلوة و إبقاء الأمور على ماهي - باعتبارها الصيغة القيمية المتسيدة وقتها للأسف.
على أن ابن غانم هو الذي لم يتحمد الحاكم، وإنما اجترح قطيعة مع الوضع السياسي المتصالح وخرابه، كما مثّل شوكة صريحة في حلق تغفيل الناس!
هكذا ببساطة امتلك قدرة الخوض ضداً من السائد والنمطي، إذ امتلك قدرة أن يكون هو، فوقف بحزم أمام الفاسدين معرّياً وكاشفاً وطرح الأفكار الناهضة بكل إخلاص، وفي المقابل استطاع أن يسكن ذروة كل الحالمين بيمن جديد لاشك.
لم يقبل هذا الوطني الضليع أن يكون إراجوزاً في مسرحية إقهار الغالبية العظمى وإهانتهم أويقبل باستغلال السلطة والإثراء غير المشروع، كما لم يرتض لنفسه القفز على حبال الواقع الرديء ومنح الوعودات الاحتالية غير المحتملة كونه يستشعر المسئولية بشكل متسق لا انفصام فيه. ولذا قدّم استقالته المدوية والشهيرة كرئيس للحكومة العام 97م..بذلك حقق البياض مصيراً فهو لا يقبل العمل بدون خطط ومضامين ومؤسساتية كما لا يقبل ضغوط الفساد ومراكز النفوذ، ما جعله ينجز الحالة المتقدمة والمنشودة التي نجت من التطابق المقرف الذي كان مكرّساً، وأعني تطابق المتهافتين واللاهثين لتدليل الفساد ولوضع المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، فلم ينله الإذلال والانتقام مثلاً لأنه ظل مبالياً بالاتساق فقط، مخلصاً للقسم الذي أدّاه، ولأنهم يعرفون أنهم أمام رجل واضح غير ملوث و لا يخشى شيئاً سوى ضميره فلم يستطع أحد المزايدة عليه، كما ناله التقدير الشعبي اللائق لأن رأسماله الحقيقي هم البسطاء أولئك الغالبية العظمى من الناس.
لم يخن الدكتور فرج بن غانم الناس ولم ينحنِ لسواهم، إذ ظل محتكماً للمسؤولية في كل منصب تقلّده. كما لم ينحدر إلى سوء الخداع، بل ارتفع إلى مصاف القديسين؛ عفيف اليد واللسان ومرتاح الضمير وشامخ الهامة. و طوال سنوات ما قبل اندلاع ثورة 2011 كان هو المثال النموذجي لكل الحالمين الحقيقيين بالتغيير. الحر الذي تمنّى أن يأخذ اليمن إلى الغد، لكنها فضلت المداومة بين أمسها السيئ وحاضرها الأسوأ منتشية بناهشيها ومخادعيها. المقدام الصادق الذي دمّر حاجز الخوف السميك في عقل اليمني ليقول «لا»، وليس بخافٍ عاطفية تمجيد غالبية اليمنيين لمستبديهم بفعل قرون من حكم الفرد دمرت فيهم خلايا الرفض الوطني الذي ينبغي لحظات الشدة والمنعطفات الخطيرة.. باختصار: ظلت النبالة تدجّج بن غانم وامتيازه الثبات كشخص غير متزلّف وبلا ادعاء، كما ظلت ثقة النفس تسيّجه ولم يعرفه الخوف أو تعرفه التذبذبات على الإطلاق.. وحتى في عز ما كان الصوت المسيطر للحزب في الجنوب، يجمع الذين عرفوه إنه كان رجل دولة من طراز رفيع، متوّجاً بالكفاءة وحسن الأداء بالمقام الأول، كما كان يخلص للعمل في أجواء من عدم التبعية للأوامر الحزبية ، فاصلاً الوعي الحزبي عن وعي إدارة الدولة، و محققاً المسافة الموضوعية الهامة في السياق بحيث كان لا ينتمي إلى المزاجيات وإنما انتماؤه الوحيد والسليم كان لمضامين روابط فكرة الدولة وتنميتها لا أقل ولا أكثر.. لذلك كله له تمثّال في قلوب كل الشرفاء والمحبين بالتأكيد، فهو يمثّل ظاهرة ناصعة في المسار الموبوء لعملية إدارة الدولة، والكثير من التمجيد والإنصاف هو ما يستحقه بشكل خاص، فيما لا أظننا في زمن النسيان أو التنكّر عموماً.
سلام لروح الدكتور فرج بن غانم ككادر جليل وكصاحب رؤيا وطنية عالية ومواقف حاسمة تعيد الاعتبار لشخصية رجل الدولة في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً.
fathi_nasr@hotmail.com