المسار العنيف الذي توغلت في أتونه جماعة الحوثي منذ عامين يتناسب عكسياً مع الحوار ومخرجاته ؛ فكلما صعّد الحوثي وتيرة حروبه، كلما أدى ذلك إلى انخفاض مستوى الحوار وممكنات تطبيق مخرجاته. وكان اقتحام الحوثي لمحافظة عمران وفرض سلطته عليها إعلاناً صريحاً بالانقلاب على المرحلة الانتقالية والتسوية ومخرجات الحوار.
أتحدث عن تأثير العنف الحوثي على مخرجات الحوار والتسوية التي انقلبت مساراً تدميرياً ؛ وذلك لأن المقياس السائد لدى القائمين على المرحلة مهجوس بها ؛ وبالتالي نقول لهم ؛ لم يعد هناك مجال لهذا المسار الانتقالي ومخرجاته سوى بتجاوز الطريق المسدود الذي وضعكم فيه عبدالملك الحوثي
أما المقياس الأكثر قرباً من الواقع ، والمعيار الأكثر نجاعة في وزن أحداثه فهو وضع الدولة اليمنية والكيان اليمني عموماً. وفي هذا تأتي توسعات الحوثي الحربية ضداً على كل هذا المشترك الوطني الذي يسعى الجميع لإصلاحه : الدولة والجمهورية والوحدة والبلد بشكل عام.
سمتان مدمرتان للحركة الحوثية ولمجتمعها وشعبها وبلدها. أولاهما اعتمادها على العنف منذ نشأتها ، وممانعتها الشديدة في التخلي عنه بالرغم من الفرص التي أتيحت أمامها عقب الثورة الشعبية في 2011 ؛ والاعتراف الذي حظيت به ومشاركتها في مؤتمر الحوار وحرية نشاطاتها الدعوية والإعلامية والسياسية في كل مكان في اليمن بما في ذلك العاصمة صنعاء التي تبث منها الآن إذاعة وقناة فضائية تابعتان لجماعة الحوثي .
والسمة الثانية هي بناؤها الطائفي مذهبياً وفكرياً وبنية بشرية، وهذا التكريس للانقسام وتأسيس حركة سياسية استناداً إلى المذهب والطائفة سيكون له آثار عميقة في المجتمع اليمني والدولة التي تسعى الجماعة الحوثية لربطها بفكرة الولاية واحتكار السلطة سلالياً ؛ والعودة بشكل أو بآخر إلى نظام الإمامة الغابر.
****
الدولة القائمة ككيان تستهدف بهدف تقويضها ، وهذا الحال أكثر من واضح في الفصل النهائي الذي يحيط بالعاصمة الآن، وبتقويض هذه الدولة بوضعها الراهن وكيفما كانت سيقوض الكيان اليمني ، ولن تتاح الفرصة لإعادة تشكله بسهولة. فهل ندع الميليشيات المذهبية المسلحة تدخلنا جحيم الاحتراب الأهلي وتقويض الدولة بشكل نهائي ومواجهة المسار التفكيكي الضال الذي انحرفت باتجاهه المرحلة الانتقالية بكل التحديات التي برزت خلالها وانبعثت من مسارها؟.. كل ذلك إشكاليات مهمة يجب مواجهتها ، ولكنها تبقى في مستوى معين ينبغي التفريق بينه وبين مستوى الإشكاليات التدميرية الأخرى التي تتكامل معه وتملأ الفراغ الذي خلفه.
لا مجال «من زاوية المنظور الوطني» لربط التحرك في تلك المواجهة بهذه المواجهة وإلا كانت ذرائعية للتسليم بالأمر الواقع «الميليشيات الكانتونات والاحتراب الأهلي» سواء بوعي أم بدون وعي.
الأهم أن صعود الحوثي ليس منفصلاً عن صيغة دولة 94 أو الغلبة التاريخية بل تجديد لها، فبينما الصيغة القديمة «العصبية القبلية وتركيبتها الحاكمة في العقود الثلاثة الماضية» تلفظ أنفاسها ومكشوفة واستنفدت كل مبررات بقائها ؛ في هذه اللحظة يصطف كثيرون مع تجديد هيمنة مركز الغلبة، مغطين انحيازهم للصيغة المذهبية الصاعدة بالعداء للصيغة القديمة التي تلفظ أنفاسها ؛ بينما هم يمنحون الصيغة عمراً جديداً ودماً حاراً ورافعة جديدة.
من المتعذر فهم تنامي السيطرة المسلحة للميليشيا الحوثية بمعزل عن حالة الفراغ الذي نتج عن ضعف الدولة.
والموقف الدولي ، وتحديداً المهيمنين من الرعاة وبجانبهم إيران ؛ هو الصانع الأساسي للمشهد الاحترابي الأهلي الذي وصل لتطويق العاصمة صنعاء ؛ كون الحوثي ينظر له هنا كورقة لتكريس الانقسام الطائفي والتأسيس للاقتتال الطائفي المستدام ، ومفردة أساسية ضمن مفردات مخطط الاستنزاف والتدمير لليمن والدولة القائمة والمجتمع اليمني.
****
ما الذي سيخسره عبدالملك الحوثي لو امتثل لصوت العقل وجنّب شعبه الفتنة من خلال سحب مجاميعه القبلية المسلحة في المخيمات التي تطوق العاصمة وتتمترس في منافذها .. ؟
سيخسر مغامرته بحصار العاصمة وإضعاف هدفه بالرجوع خطوة إلى الخلف في مخطط إسقاطها، بينما سيدعم هذا الانسحاب للمسلحين مصداقيته في رفعه لشعار رفض الجرعة وإقالة الحكومة ؛ لأنه سيحررها من هدفه الميليشياوي الحربي إزاء العاصمة ؛ أو على الأقل سيفصل بين المسارين اللذين يعتمدهما : الاحتجاجات الشعبية ؛ واستخدام السلاح والعنف.
ولأن هدفه العاصمة وليس الجرعة والحكومة ؛ فهو يعاند ، ويناور ، ويتردد …ويتمسك بحصار العاصمة والسلاح والميليشيات …!! لاحظوا أننا أصبحنا نقيس نواياه وتوجهاته فقط بسحب مسلحيه من منافذ العاصمة .. وليس من عمران التي فرض سلطته عليها .. وليس بوقف الحرب في الجوف … ناهيك عن التطرق لعاصمته «صعدة».
هذا يدلنا إلى أن السكوت عن الموجة الجديدة من العنف والتوسع بقوة السلاح التي اختطها الحوثي في الثلاث السنوات الفائتة فرض واقعاً جديداً على الدولة والمجتمع ، عقّد من مهمة أي توجهات تتوخى بناء قواعد سلمية سياسية جديدة للتنافس تخرج هذا البلد من الخيارات التدميرية التي تبقي اليمن وسكانها في دوامة العنف والتخلف والطائفية والتخلف.
musraj2003@hotmail.com