من محاسن القدر أني تعرفت على المثقف الشامل الأستاذ علي العبدان قبل قراءة ديوانه الشعري الأول، كما عرفته شعرياً في مستويين: المستوى الشعري الصافي المقرون بالبيان والبديع العتيدين عند أهل العربية، والمستوى المقرون بالغنائية الموسيقية ذات الصلة المؤكدة بشعرية النصوص، ومعارج تحولاتها المُدوْزنة برفائف الخليل بن أحمد الفراهيدي، وفي هاذين المستويين تماهت عوالمه مع قراءاته الاستسبارية للموسيقى الشرقية، والعلوم الميتافورية الماورائية، المغروسة في نسيج الخيال والذائقة والدربة، ومن هنا أعتقد جازماً أن الحوامل الدلالية لشعره الماثل، وافرة الحضور في هذه الأبعاد المفاهيمية المتألقة بلغة عربية لا تُغادر البيان المألوف والمعروف ، بل تذهب بعيداً في النزعة الإحيائية التجديدية لعديد الكلمات القاموسية التي خَبَتْ وتراجعتْ وسط ركام الحالة الثقافية العربية. تلك التي غادرت منهجياً قيمة «الأناسة» والانتربولوجيا الثقافية التاريخية، حالما وصل العرب إلى ذروة المجد في العصر الأندلسي، ثم تقهقروا ثقافياً نحو انحسار مازال يعيد إنتاج بؤسه إلى يومنا هذا .. لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الروح الإحيائية النهضوية التي تبلورت مع الانبثاقة الأولى في مطالع القرن العشرين، كان لها دور إيجابي ينتظر انبعاثة تالية، تعيد للعربية وهجها وقوتها التعبيرية النابعة من بيانها الِّلساني الفريد، مما لسنا بصدد تفصيله في هذه التوطئة.
في مصفوفة العبدان الشعرية النابعة من أساس العمود والقافية المقرونتين بالروي الصافي، نتوقف هائمين معه في دروب الوصايا المتعرجة، ونلاحظ منذ البدايات الإشارة لثنائية المَبْنى والمَعْنى، حيث القصائد في القسم الأول، ثم نواصل قراءة الردود والمجازات في القسم الثاني، وسنرى أن «المُنفصِل ـ المُتَّصِل» بين القسمين يتبلور في شعرية الشاعر، بوصفها الدلالة الجمالية الأساس للبنية الكاملة للديوان، ولا نجافي الحقيقة إذا استعدنا مقدمة الشاعر التي ترى أن الشعر موهبة وصنعة معاً، وأن المستويين يتكاملان لينجزا بحور البيان الشعري العصيَّة على الكلام، وسنرى أن هذه الحالة التوصيفية الدقيقة تعيدنا إلى ذلك القول المأثور للحلاج وهو يترنَّم:
العِلم عِلمان مطبوع ومكتسب
والبحر بحران مركوب ومرهوب
وكأن البحرين «المركوب والمرهوب» يتموضعان في ذات المياه التي تصل وتفصل بين المستويين، وهو ما قاله الشعر توصيفاً لنصوصه الماثلة، وما سنراه تباعاً في سياق متابعتنا المتتالية لعموم القصائد الواردة في الديوان، الذي نراه مشروعاً لعديد من الدواوين، وليس الأخير كما يرد في خاتمة الكتاب، كما يتواضع الشاعر.. غير أن هذا الوصف الأخير يقرنه الشاعر بنهاية الشعر والشعرية لديه، وهو شرط ينتفي قياساً بالمواصفات النصيِّة المُشعْرنة بميزان الجمال والجلال.
Omaraziz105@gmail.com