أراد أن يُظهر اعتزازه واستمتاعه بصحته أو سلامة بدنه الذي نشأ ونما خالٍياً من الجراثيم والفيروسات الهدامة القاتلة، فأخذ ثيابه إلى غسّالة عامة لتنظيفها من إفرازات العرق وما علق بها من الغبار ويضفي عليها رونقاً من النظافة وتثبيت زر هذه ورقع فتق في تلك.
ولأنه أخطأ الطريق حين وضع ثيابه في غسّالة لا تفرز ما يحتاج إلى تطهير وتعقيم مما هو نظيف، أو لا تقوم بتعقيم ما تستقبله من ثياب الغسيل؛ فقد تسبّبت ثيابه التي عاد بها من الغسّالة سعيداً بمظهرها الجميل، في إصابته إصابة سطحية بشيء من الفيروسات التي إن لم يتنبه إليها ويطهّر ثيابه منها ويسارع إلى تحصين بدنه من إصابة سطحية؛ فلا مناص له من اعتلال صحته بما يصعب علاجه وإن بالكي وهو آخر الدواء كما قالت العرب.
بهذا التشبيه المجازي؛ أختصر المدخل لحديثٍ موجزٍ عن اليمن وأم المشاكل الكامنة وراء ما يعانيه على مختلف الصُعد، اليمن الكبير بوحدته الوطنية، التي لم تنل منها سهام أحقاد ومؤامرات استهدفتها قديماً وحديثاً، وعجز ما أسمي بـ«الخط البريطاني» وما سُمّي بـ«الخط التركي» عن إحداث أي شرخ في البُنية الثقافية التي تقوم عليها واستعاد وحدته السياسية على أساسها في الـ22 من مايو 1990م.
اليمن الذي استمدّ قوته وعافيته من سلامة وحدته الوطنية عبر تاريخه النقي من فيروسات الأمراض الاجتماعية المدمّرة، ومدّنا بالشواهد التي نفاخر بها اليوم ونلقّنها أبناءنا كما لقّننا الآباء، ومنها أن اليمن لم يشهد حرباً طائفية أو مذهبية، رغم كثرة الصراعات التي مرّ بها وظلّت محصورة على ما هو سياسي، أو ما يندرج في دائرة الصراع في سبيل مُلكٍ أو نفوذ أو مصالح، يُحسب لمن أشعلوها أو كانوا وراءها أنهم لم يقحموا فيها الدين الطائفي المذهبي، كشيعة وسنّة،«روافض ونواصب» وغير ذلك مما وقع فيه بعض الساسة في عصرنا الذين لم يتردّدوا عن إثارة تلك النعرات حماية لنفوذ وتوسيعاً لمصالح وتنفيذاً لمخطّطات خارجية ارتبطوا بها.
لم يشهد اليمن حرباً مذهبية أو طائفية عبر تاريخه، وهذا ما جعل أجياله المتعاقبة لا تتعصّب لشيء اسمه «سنّة أو شيعة» ولم يُسجّل ذلك على من تعاقبوا في حكمه ودارت بينهم الحرب من أجل تثبيت دعائم حكمهم كالأئمة الزيديين، وملوك الدول الرسولية والطاهرية والنجاحية واليعفرية وغيرها؛ إذ حصروا صراعهم على مُلكٍ وخلافة بعيداً عن التأجيج المذهبي.
عبر تاريخهم لم يلتف اليمانيون إلى شيء اسمه سُنّة أو شيعة، وليس هناك في أذهان الناس إلا أن هناك مذهبين رئيسين أو شافعية وزيدية، وينظرون إلى كل مسلم على أنه سنّي؛ كون السُنة النبوية هي التعاليم الموضحة للمسلم كيف يمارس ما أمر به القرآن من عبادات وتعامل، أي أن القرآن أمر بالصلاة والصوم وغير ذلك من التعاليم التي جاءت السنّة لتوضح للناس كيف يصلّون وكيف يصومون وكيف يحجّون.... إلخ وأن حب الرسول وآل بيته سمة لكل مسلم يحب نبيّه. ولا نبالغ في القول إن نقاء أجيال اليمن من نعرات المذهبية أو التعصُّب لها قد جعل من عامة الناس وبسطائهم ـ الذين يُشحنون اليوم بالمذهبية والتعطش لدماء وأكباد المخالفين ـ لم ينظروا إلى المذهبية على أنها طُرق عبادة دينية، لعدم إدراكهم أي فوارق أو جدل بين زيدية وشافعية، الأمر الذي جعلهم ينظرون إليها كشيء جغرافي؛ بمعنى أن اليمن من منطقة كتاب في قاع الحقل شمالاً «زيود» ومن كتاب جنوباً «شوافع».
وليس من قبيل النكته أن نورد حكاية تشير إلى ذلك وهي أن يهودياً من ذمار اختلف مع خاله القاطن في منطقة شافعية وحصل بينهما شجار أدّى إلى عراك وضرب بالهراوات؛ فتجمهر عليهما الناس وشاعت حكايتهما، وعندما سأل مواطن عما حدث قيل له: اليهودي الزيدي واليهودي الشافعي تضاربا على ميراث، وقد احتكما إلى القاضي..!!.
ليست نكتة، وإذا ما كانت نكتة فإن مغزاها يرمز إلى أن المذهبية كزيدية وشافعية لم تكن عند العوام ذات جذور دينية خلافية، بل مجرد تقسيم شكلي يتوقف على مكان الإقامة؛ بغض النظر حتى عن الديانة، وفي هذا توضيح لما أشرنا إليه وهو طهارة الضمير والوجدان العام من العصبية المذهبية الخلافية، ولهذا تم النظر إلى اليهودي الساكن في منطقة زيدية وإلى اليهودي الساكن في منطقة شافعية على أنهما زيود وشوافع.
من هذه البساطة والبراءة الشعبية ننتقل إلى عامل آخر من عوامل قوة المجتمع اليمني بسلامة وحدته الوطنية، وهو أن أكثر من خمسة مذاهب لها معتنقوها في اليمن منذ مئات السنين؛ ولا توجد لدى معتنقي هذا المذهب حساسية تُذكر إزاء معتنقي ذلك المذهب، وتربط الجميع علاقات الإخاء والصداقات والمصاهرة والمواريث، ولم يقدم أي مذهب وإن كان ممتلكاً للسلطة والمال على أن يستقطب أو يجرّ إليه وإن شخصاً واحداً من أبناء مذهب آخر، ولا ننظر إلى الخارطة الجغرافية لليمن وما تتركّز فيها من مذاهب يسودها الانسجام عبر التاريخ الإسلامي لليمن؛ بل ننظر إلى مساحة صغيرة كمديرية حراز وكيف تتعايش فيها أربعة مذاهب بكل محبّة وتسامح وقبول بالآخر دونما صدام أو تقاتل.
أعتقد أن هذا يكفي لنخلص إلى القول إن اليمن الذي شبّهناه بالإنسان السليم المعافى قد أصابته بعض الفيروسات بما هو سطحي من الأمراض نتيجة عدوى لم يتنبّه إليها؛ كان عليه أن يتنبّه وهو يقدم على مواكبة العصر والتجديد بالانفتاح على الديمقراطية والحقوق والحريات بتحصين وحدته الوطنية بالقوانين والضوابط المعمول بها في أكثر البلدان ديمقراطية وحريات، والتي لا تسمح بعدم القبول بالآخر أو قمعه أو محاربة معتقده دينياً كان أم سياسياً؛ بل تجرّم ذلك وتعاقب عليه.
لقد أهملنا هذا حتى صار البعض يجاهر بعدم القبول بالآخر وقمعه والاستقواء عليه وإن بقوة الدولة والتدخُّل الخارجي تحت ذرائع لها دوافعها السياسية وارتباطاتها المصلحية والخارجية المشبوهة التي صارت أكثر انكشافاً وانحطاطاً من خلال تلك الوسائل الإعلامية الخارجية التي كشفت مؤخّراً عن سوء نواياها نحو اليمن التي صارت تتناولها في تغطياتها الإعلامية بما تسمّيه «الجنوب السنّي والشمال الشّيعي» أو «القبائل السنّية والقبائل الشّيعية» في شمال اليمن..!!.
أما آن التنبُّه إلى هذا الخطر الماحق وما سُفك من دماء وفُتح من جراح..؟!.