من يفهم مانديلا..؟! لقد تسامى فوق جروحه بوعي مستقبلي ثاقب، كان تسامحه بداية حقيقية لجنوب أفريقي جديد غير مقيّد بآثام الماضي، هذا الاختبار الإنساني الأخلاقي هو أعلى مراحل اختبار الإنسانية، لقد نجح فيه نيلسون مانديلا بحكمة متفوّقة.
وها أنا أتمنّى أن تُعيدوا قراءة رسالته إلى الثوّار العرب قبل رحيله لتفهموا أي روح طهّرتها الآلام؛ هي روح نيلسون مانديلا الخالد:
“خرجت إلى الدنيا بعدما وُرِيتُ عنها سبعاً وعشرين عاماً؛ لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد، ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي؛ إذ سأرى وجوه أطفالي وأمّهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً..؟!.
أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم، لقد خرجتم لتوّكم من سجنكم الكبير، وهو سؤال قد تحُدِّد الإجابة عنه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم.
إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبي، والبناء فعلٌ إيجابي.
(..)
أنا أتفهّم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبّب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج، فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن أنتم في غنى عن ذلك، أحبّتي.
إن أنصار النظام السابق ممسكون بمعظم المؤسسات الاقتصادية التي قد يشكّل استهدافها أو غيابها أو تحييدها كارثة اقتصادية أو عدم توازن أنتم في غنى عنه الآن.
عليكم أن تتذكّروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون إلى هذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم؛ وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة.
أعلم أن مما يزعجكم أن تروا ذات الوجوه التي كانت تنافق للنظام السابق تتحدّث اليوم ممجدة الثورة، لكن الأسلم ألا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجّدوا الثورة، بل شجّعوهم على ذلك حتى تحيّدوهم، وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من أسهم في ميلاد حريته.
إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.
أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍّ واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يُحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنتْ الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل؛ ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الديكتاتورية من جديد.
أرى أنكم بهذه الطريقة – وأنتم أدرى في النهاية – سترسلون رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الديكتاتوريات الأخرى ألا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثيرين من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد تحجمون خوف وهلع الدكتاتوريات القائمة من طبيعة وحجم ما ينتظرها.
تخيّلوا أننا في جنوب أفريقيا ركّزنا – كما تمنّى الكثيرون – على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم، لو حصل ذلك لما كانت قصة جنوب أفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني اليوم.
أتمنّى أن تستحضروا قول نبيكم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
fathi_nasr@hotmail.com