لم تكن المشاورات التي شهدتها أروقة مجلس الأمن الدولي مؤخرا حول اليمن وما اكتنفها من تجاذبات وتباينات في المواقف بعيدة أو منفصلة
عن أجواء الصراع والتنافس بين القوى الكبرى سواء في الساحة العربية أو خارجها وأخطر ما برز في تلك المشاورات هي الاتجاهات المتغايرة
والتي تجسدت فعليا في مواقف واشنطن ولندن وموسكو قبل أن تستقر الأمور لصالح الجانب الروسي والذي بدأ الأكثر إمكانية للاستحواذ
على مقاليد لعبة الصراع القائمة حول اليمن.. وعلى النقيض من هذا الطرف جنحت المواقف الأخرى للمراوحة بين(المثالية الدبلوماسية -
والواقعية السياسية) وكأنها قد أرادت بذلك الاحتفاظ بفزاعة جماعة أنصار الله(الحوثية) وانتشارها القوي في البطن الرخو للجزيرة العربية في مواجهة الدول
الخليجية لتستمر ابتزاز هذه الدول وفي الجانب الآخر تقديم المزيد من التطمينات لإيران حيال دورها الإقليمي والدولي الجديد والذي سيتصف بفعالية
أكبر طبقا للنتائج الافتراضية التي يمكن أن تحدث ترتيبا على الاتفاق النهائي حول الملف النووي بين طهران ومجموعة (5+1).
شعرت برغبة في (الضحك - المبكي) أمام تلك الحسابات الدولية التي تؤسس لمكاسب الكبار على حساب الضعفاء الذين كتب عليهم أن يبقوا رهينة
لصراعات الدول الخمس الكبرى داخل مجلس الأمن كما هو حال سائر دول المشرق العربي التي اختلطت فيها أوراق تجارة السلاح بأطماع الآخرين بمقدرات
هذه الدول التي تتقاطع فيها المصالح وتتناقض حين يتعلق الأمر باقتسام الكعكة فيها.
وأقرب الأمثلة الصارخة على هذه الانتهازية الفجة تتجلى فيما حفلت به المشاورات الأخيرة حول الوضع المتدهور في اليمن والذي تحول في تلك
المشاورات بمثابة فريسة يسعى كل طرف إلى نهشها بقدر ما يستطيع ولم يشفع لهذا البلد بؤسه الدائم فهو من يجمع بين فقر الصومال وتنافر العراق وقبلية ليبيا
وتقاطعات سورية إن لم يكن أشبه لبنان كساحة مفتوحة لكل الايديولوجيات المتصارعة.. وفيما يبدو هذا الجسد المريض غارقا في ورطة الفقر والبطالة
والإرهاب الذي يغرس دبابيسه في عروقه فإنه الذي لم يسلم من استهداف لعبة الصراع الدولي والتي يعاد صيغتها عبر الزج باليمن في حروب
طائفية ومذهبية تسمح بتفكيكه إلى دويلات وكنتونات متناحرة ومتصارعة تأكل بعضها بعضا وما نراه اليوم على أرض الواقع يؤكد على أن مخطط (عرقنة
اليمن) تجاوز مرحلة الخطط ودخل مرحلة التنفيذ والإنجاز في ظل إخفاقات العملية السياسية والصراع المحتدم على السلطة بين تيارات وجماعات متباينة
المشارب ومتخندقة الأهداف.
وليس أمرا عارضا أن تختفي الدولة وتتلاشى مؤسساتها ومنها مؤسسات الأمن والشرطة والجيش التي تشكل عصب أي دولة وقوتها وعصب
الأمن المجتمعي لأي مجتمع مهما كانت درجة وعيه أو تخلفه لتشتعل نيران الفوضى والتدمير في كل مفاصل الحياة إن لم تصبح كل مدينة يمنية أشبه
بدولة بحد ذاتها وكل قبيلة لجيش قائم بذاته وكل جماعة لكيان مستقل في المساحة التي يتمدد فيها.. وباختصار شديد فلم يكن لجماعة أنصار الله(الحوثية)
أن تطيح بالدولة ورئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي وحكومة خالد بحاح وأن تزيح العديد من التيارات وعلى الأخص التيار الإسلامي من
الواجهة لو لم تكن هذه الجماعة قد استفادت من الفراغ الذي أحدثه التدخل الأممي عقب موجة (الربيع العربي) التي اجتاحت اليمن في إطار
اللعبة المرسومة لهذا البلد والتي جرت فصولها مع الأسف برعية دولية كان اللاعب الرئيسي فيها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن جمال بنعمر.
وحين نتجاوز التوصيف إلى التحليل تقفز إلى الذاكرة تلك الخريطة التي سبق وأن نشرتها صحيفة نيويورك تايمز والتي تحدثت عن نشوء 14 دويلة
على أنقاض 5 دول عربية تتصدرها اليمن يصبح من الواضح أن ما يحدث في اليمن وسوريا والعراق وليبيا من مآسي ومذابح وإخفاقات إنما
هو الذي يندرج كليا في هذا السيناريو التمزيقي والتفتيتي الذي يستهدف تغيير وجه المنطقة في الشكل والمضمون.
جريدة الرياض السعودية