يعتقد بعض الزملاء –بحسن نية ربما- أن الكتابة في زمن العدوان الغاشم الذي يطال كل شيء في بلادنا ينبغي أن تكون قاصرة على الحديث عن هذا العدوان، عن صواريخه وقاذفاته وإلاَّ تخطئ حدود ما يرسمه من سواد ودماء. وفي هذا الاعتقاد الكثير من الشطط والافتئات على الكاتب –أي كاتب- وحصره في زاوية محددة لا يخرج عن دائرتها ولا يتنبه إلى ما يحيط بها وما يؤثر في مسارها. وفي هذا الالزام ما يجعل الكاتب عاجزاً عن أن يفتح عيون القراء وقلوبهم على قضايا ومواقف هي في صميم الحدث القائم وواقعه، بل ومما يجب تركيز الأذهان عليه بوصفه من أخطر الأهداف التي يرمي العدوان إلى تحقيقها وترسيخها بعد أن كانت بعضاً مما اعتمد عليه في شن عدائه الغادر. ومن هنا فنحن في الوقت الذي ندين فيه العدوان الخارجي والاقتتال الداخلي بكل ما في اللغة من طاقة الإدانة والتنديد ومن قدرة على الاحتجاج، نسعى، ويجب أن نسعى، إلى تعريف المواطن بالمخاطر التي يريد العدو أن يخرج بها من هذا العدوان، وهي أخطر بما لا يقاس من هدم البيوت وتدمير البنى التحتية وقتل الأبرياء، وأعني بها تدمير الشعور الوطني المشترك.
في الجزء الثاني من سيرتها الذاتية "متاهة الزمن" تكتب الناقدة الرائدة اللبنانية الدكتورة يمنى العيد عن خطر الحروب ودورها في تفتيت الولاء الوطني، ومما جاء في ما يشبه المقدمة للكتاب ما يستحق التوقف عنده، والتأمل والعبرة والاستفادة أن أمكن لنا أن نستفيد بعد أن فشلنا في تمثل دروس الماضي البعيد والقريب، ولم نعد نصغي لصوت العقل والضمير يقول لنا هذا الجزء المركّز من المقدمة: "نحن الذين أمضينا عمرنا نحلم ونناضل لتحقيق أحلامنا، بل بعض أحلامنا، لكن العالم الذي صبوت إلى تغييره لم يتغير، بل أنتقل من سيء إلى أسوا، وصار بعضنا أعداء للبعض الآخر. وبدل أن نناضل سوية للتحرر من أعدائنا الفعليين الذين يطمعون في احتلال أراضينا ويناهضون مساعينا إلى النمو والتقدم، سقطنا في جب الاقتتال الطائفي والمذهبي وصرنا نتذابح ونفجّر بيوتنا ومدننا فوق رؤوسنا. لقد غدونا أعداء أنفسنا، غدونا نحن من يراكم العوائق ويقيم سدوداً في مسار طريق شعبنا للسير فيه، أحكي بصيغة الجمع، نحن أخوة يوسف الذي رميناه في الجب وننتظر مرور أحد العابرين لإنقاذه".
ذلك هو الجزء الذي وصفته بالمركّز والعميق في مقدمة كتاب الدكتورة الرائدة الذي تحكي فيه بمرارة وألم مآسي الحرب الأهلية في لبنان والصراعات التي كادت تطفئ الإشراقة التي صنعها هذا البلد العربي الصغير بحجمه والكبير بدوره الثقافي والفكري والتنويري. كما تستعرض فيه بمرارة وألم أيضاً الاجتياح الصهيوني للبنان ووصوله إلى بيروت وما أسفر عنه ذلك الاجتياح العدواني الغاشم من آلاف القتلى والجرحى، ومن إهانة للبلد الذي مهّدت الخلافات والمنازعات السياسية والطائفية بين أبنائه للعدو التاريخي من عبور حدوده واحتلال عاصمته واعتقال مواطنيه في بدرومات العمارات وتكديسهم في الملاجئ خوفاً من القصف الذي يطال البشر والمنشئات وحاول أن يمحو المدينة من الوجود لو لم يجد مقاومة شعبية واسعة الجبهات جعلته يتراجع ويترك المدن إلى الشريط الحدودي الذي خرج من بعد ذلك مهزوماً منكسراً.
وأتوقف هنا لكي أقول وأؤكد أن بلادنا غير لبنان، وأن العائلة اليمنية الواحدة لا مكان فيها للتقسيم الديني أو الطائفي أو المذهبي، إلاَّ أن هدف المعتدين الذين يضربون بنيرانهم صباح مساء المدن والناس في هذه البلاد كان في أساسه يقوم على إشعال فتيل الخلافات وإيقاظ النعرات، وما دخلوا الحرب إلاَّ وفي حساباتهم أنها ستمهد لحرب أهلية لها أول وليس لها آخر ومن هنا كان الواجب يقتضي من المكونات السياسية الوطنية أن تتناسى خلافاتها وضغائنها وتثبت للمعتدين أن اليمنيين شبوا عن الطوق وأنهم صاروا قوة واحدة قادرة على أن تقف في وجه كل عدوان أياً كان مصدره ومن أي الجهات الأربع شبّت نيرانه.