ثمة أناس يقضون حياتهم بانتظار الأفضل الذي يحسبونه لم يأتِ بعد، رغم أن كثيراً من التفاصيل التي يعيشونها وتمسهم بشكل مباشر آخذة مسار الأسوأ.
طيلة الأشهر الماضية من مؤتمر الحوار، تسيدت نقاشات الأقاليم، حياة المعنيين في الشأن السياسي، ومع تركيز الحوار عليها في غضون الشهرين الماضيين، أصبحت القضية حديث واهتمام الناس، بعضهم ما إن يسمعوا بمصطلح أقاليم للمرة الأولى، حتى يباشروا عرض رؤاهم وتصوراتهم لوضع مدينتهم أو قريتهم في إطار “الإقليم الخصيب”، ويمشطون البلاد طولاً وعرضاً لتوزيعها على الأقاليم بحسب تقديراتهم الطارئة.
وبدون دراسة علمية متروية لواقع البلاد وظروفها وتعقيداتها وتداخلاتها اجتماعية واقتصادية وجغرافية ،فإن من الصعب الجزم بأن رؤيةً خاصة بصيغة ما لشكل الدولة ستكون ناجعة لمستقبل اليمن وفقاً لما يقدره هذا الطرف أو ذاك، مهما تراءت له الصيغة التي يراها مثالية.
قبل بضعة عشر عاماً دشن النظام السابق تجربة المحليات على مستوى المحافظات والمديريات، وكان لمثل تلك التجربة - إن صدقت الإرادة السياسية - أن تشكل نواة حقيقية لحكم محلي على مستوى المحافظات والمديريات، وتضع أولى لبنات الدولة اللامركزية بعد الوحدة..
لكنها الفكرة الجيدة إذ تجهض بالتنفيذ السيء والتسطيح والمصادرة لمغزاها ومعناها وتنتهك بالحسابات الضيقة، لتغدو الإصلاحات مجرد استرضاء للمانحين، ومغالطة للرأي العام لتصبح فاقدة القيمة والأثر على الواقع..
بالنسبة للمديريات لم تكن السلطة المحلية أكثر من مجمع حكومي يضم جميع مكاتب الوزارات وخصوصاً مكاتب الجبايات تحت سقف واحد، وظل رئيس المجلس المحلي شخصاً مفروضاً بمزاج مراكز القوى المختلفة.
كذلك لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للمحافظات، إذ ظل المحافظ معيناً من رأس الدولة، بإخراج انتخابات شكلية يزكى فيها الرجل المفروض من الحاكم الذي يصدر قراراً بتعيينه، ومثل تلك التجربة أثبتت قصورها منذ الأيام الأولى، إذ فشلت في محافظة الجوف مثلاً، ليعين محافظ لها دونما حاجة لمسرحيات هزلية، تؤدي نفس الغرض..
انتخب الشعب ممثلين محليين في مجالس المحافظة، لدورتين عامي 2001 و 2006، لكن صانع القرار بدأ إفساد التجربة بإجراءات مضادة، فمقابل أعضاء المجالس المنتخبة، أرهقت المحليات بتعيين أمثالهم وربما أضعافهم في بعض المحافظات كوكلاء بلا جدوى أو طائل أو دراسة ولا هيكل إداري، ليتحول بعض هؤلاء وأولئك إلى سماسرة ومقاولين ووسطاء ومراجعين في قضايا مختلفة، وأكثرهم كياسة ينتظرون دورهم في لجان طارئة تتولى النظر في قضايا ومهام طارئة، وأول ما يعنيها في هذا الشأن هو تخصيص الميزانية وختامها تقرير، لا يساوي حبره أحياناً.
في زمن الرئيس الحمدي -رحمه الله - دُشنت التعاونيات المحلية، ودعمت الكثير منها بمعدات بسيطة (تراكتور، حراثات، معدات زراعية)، فلمس الناس أثراً مباشراً على حياتهم، أفضل من تجربة القرن الحادي والعشرين التي أنفق عليها المليارات، لكنها لم تنجح في إدارة أبسط الملفات كحالات الرعاية الاجتماعية بشكل نزيه ومحترم، إذ تحصل عليها النافذون قبل الفقراء المستحقين.
مخطئ من يظن أن رؤيته الاقليمية ستكون حلاً مثالياً لبلد لا تخضع لسلطة الدولة، لا يسودها القانون، ولا توجد فيها دولة بشكل يرقى لمستوى ضمان حياة الناس وأرواحهم وممتلكاتهم وحقوقهم، في ظل سيطرة الميليشيات والجماعات المسلحة على أجزاء ومناطق واسعة فيها، مقابل هشاشة السلطات المركزية وضعف كفاءتها.
الحياة لن تتغير بمجرد التوافق على إقليمين أو خمسة أو غيرها من الخيارات المطروحة، بقدر ما يعتمد تطورها وتحقيق رضا الناس على وجود الدولة الضامنة للعدالة والأمن والمواطنة المتساوية.
وإذا ما وجد الأساس المناسب -وليس المثالي- لتلك الدولة فسيكون شكلها البسيط أو المركب عاملاً مساعداً في تعزيز مكانة الدولة وتركيز مهامها وخدماتها واقترابها أكثر من هموم وقضايا المواطنين والإسهام في حلها بعيداً عن عقدة المركز.
وبغير الدولة وحضور هيبتها وتقوية مؤسساتها فلن تفضي الحلول المطروحة سوى لمزيد من التشتيت والضياع وتعقد الأزمات، ومعها ستقتل أحلام الناس بالتنمية والاستقرار والرخاء وتحقيق المواطنة، وستبقى مشاكلهم البسيطة معقودة بأزمات معقدة وكبيرة على مستوى التشتت والانفصال والحروب العبثية..
saminsw@gmail.com