في تعليقه عما يجري في إيران قال مراسل البي بي سي أن "إيران تحترق" وهي الجملة التي أغضب السلطات الإيرانية التي سارعت إلى توجيه إصبع الاتهام لبريطانيا بأنها "رأس الأفعى" وأنها تساهم مع الغرب في محالة انقلابية داخل البلد، دون أن تتساءل السلطات الإيرانية نفسها عما يجري حقا داخل البلاد، على اعتبار أن ما يجري ليس نزهة شعبية في شوارع طهران، وعلى اعتبار أن الذين خرجوا غاضبين فعلوا ذلك في ذكرى عاشوراء تحديدا كأشد ما تكون المناسبة ترميزا شعبيا واضحا لحالة الرفض والقهر والتعب واللاجدوى التي حمّلتها المرجعيات الدينية الإيرانية للشعب الإيراني الذي لم يعد كما يبدو قادرا على حملها أكثر مما سبق، فأن يصرخ الشباب ما بين عشرين وثلاثين سنة "يسقط الديكتاتور" ويحرقون أمام الكاميرات صور الزعيم الديني الإيراني آية الله الخميني وصور "علي خمنئي" لهو المسار الجديد الذي من الصعب ـ بل ومن المستحيل ـ القفز فوقه للقول أن الأيادي الأجنبية "الخبيثة" (كما يقول الإعلام الإيراني الرسمي) تقف وراء هذه الانتفاضة الثالثة منذ الانتخابات الرئاسية الماضية ضد رموز دولةٍ ظلت طوال عقود من الزمن تراهن على أنها الوحيدة غير القابلة للسقوط! فهل اقترب السقوط إذن؟
الأمس الذي يتكرر!
في تقرير مثير للانتباه نشره المعهد الأوروبي للدراسات الإستراتيجية منذ أسبوع فقط، جاء فيه أن 51,3% من الإيرانيين يرغبون في التغيير الجذري داخل إيران، وأنهم يأملون أن يحدث التغيير من دون عنف وإن كان 44% يرى أنه في دولة شمولية مثل إيران من الصعب الحديث عن التغيير السلمي في سدة الحكم، كما جاء أن أسباب هذه النقلة النوعية الكبيرة في فكر الإيرانيين هو رؤية الأموال الإيرانية تصرف خارج إيران في نزاعات لا علاقة للشعب الإيراني بها، وضد دول عربية وإقليمية ليست بالضرورة عدو إيران الأول، والذي يبدو ملفتا للانتباه هو أن النسبة تمنت ذهاب المرجعيات الدينية الإيرانية التي ـ حسب التقرير ـ تتهمها النخب الشعبية بأنها وراء التردي العام الحاصل في البلاد، فبين إيران الشاه (الانحلال واللاقانون) وبين إيران (ولاية الفقير) التي أرادت أن تمد جذورها في البلاد العربية على حساب ظروف الإيرانيين أنفسهم منعطفات كبيرة حدثت وتحدث، وإن كان سقوط الشاه جاء لأسباب كثيرة أبرزها التخلي الغربي عن الشاه باعتباره ورقة محروقة وانحيازهم آليا ـ مرغمين ظاهريا ـ لزعيم الانقلابيين وقتها آية الله الخميني بدليل أن هذا الأخير جاء على متن طائرة فرنسية إلى طهران في منتصف السبعينات للإعلان عن قيام جمهورية ولاية الفقيه التي قال وقتها عبارته الشهيرة" لن تولد القوة التي سوف تهزم الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، بيد أن التغييرات الدولية الجذرية لم تساهم في جعل المرجعيات الدينية التي تقود الفكر السياسي الإيراني اليوم تستوعب أن العالم تغير فعلا، وأن الظروف التي قادت آية الله الخميني من منفاه بفرنسا إلى السلطة لم تعد قائمة، وأنه داخل هذه المتغيرات الجديدة لن يصل إلى إيران آية الله جديد حتى لو طار بجناحين! ما حدث في الدولة الشيعية الأكبر في المنطقة أن الشعب الإيراني هو الذي يقود هذه الثورة اليوم حاملا شعارات كثيرة وكبيرة وجديدة تكفي لمعرفة أن مطالبه ليست غير أخلاقية كما يقول النظام، بل تكمن في حفظ الكرامة، وتأسيس دولة مؤسسات حقيقية بعيدا عن المحسوبية التي صنعتها المرجعيات الدينية ضمن إشكالية العمائم على حد تعبير المفكر الكبير فهمي هويدي، بحيث أن سقف مقبول من الكرامة ومن العدالة ومن الحياة هو المطلب الأبسط الذي نكتشف أن جيل جديد من الإيرانيين يحملون ويطالبون به وغير مستعدين للتضحية به بدليل أنهم يسقطون يوميا في شوارع طهران. إيران لم تعد قوية كما كانت تزعم!
الرصاصة التي لا تصيب توجع الرأس!
في ندوة حول الوضع الحالي بإيران، قال الخبير السياسي الفرنسي "سيرج ريجيه" أن الوضع الإيراني الراهن تغير كثيرا عما كان عليه قبل عشر سنوات، والتغيير يكمن في أن الجيل الجديد الذي يطالب بالتغيير يرفض أن يكون التغيير شكليا، وهو ما يعني أن الشباب الغاضب والرافض للنظام الحالي يعبّد الطريق للمعارضة الإيرانية للعمل على خلق توازن حتمي بحيث أن المثير للدهشة ـ يقول سيرج ريجيه ـ أن الجيل الإيراني الجديد يريد إسقاط النظام وليس مجرد تغييره، بدليل حمله شعارات واضحة ضد رموز المرجعيات الشيعية في البلاد، وضد التدخل الإيراني في شؤون الدول المجاورة التي صارت عدو افتراضي لا يؤمن به الشعب وبالتالي يرفض أن يكون ـ أي الشعب الإيراني ـ داخل رقعة الشطرنج الذي يلعبها نظامه ضد دول الجوار وضد دول كثيرة. وهذه ليست أول مرة يتم فيها الحديث عن الحراك الحاصل داخل إيران، ليس منذ الانتخابات الرئاسية الإيرانية بل وقبل ذلك في مدن كبيرة مثل أصفهان قبل عامين عندما بدأت تلوح أول مظاهر الحنق على النظام، قاده شباب جامعي وانخرط فيه عمال عاديون قبل أن يتم تطويقهم بعنف، بيد أن الذين يحركون الشارع اليوم ليسوا المعارضة تماما، بدليل أن الحراك الشعبي يبدو اليوم حنقا حقيقيا على الطريقة التي تعامل النظام معهم لمجرد أنهم طالبوا بأشياء ليست سلبية مثل تحسين الظروف السياسية ونبذ القمع والتعذيب في السجون ورفض تبذير الأموال على مشاريع إقليمية لن تخدم الإيرانيين بقدر ما سوف تدخلهم في صراعات كبيرة (إقليمية ودولية)، فمجرد اعتبار الخليج خليجا فارسيا ـ كما تصفه الصحف النظامية الإيرانية منذ عشرات السنين ـ لهو أكبر الإسقاطات الإقليمية التي ظل النظام في إيران يعمل عليها ليس لأجل جعل الخليج فارسيا، بل لأجل تشييع دول في المنطقة وجعل الأقليات الشيعية تنقلب في دول كثيرة مثل البحرين، ومثل اليمن، ومثل السعودية على سبيل المثال لا الحصر، حتى لو كانت تلك الأقليات الشيعية تعيش في مجتمعات مغايرة عن المجتمع الإيراني وكبرت على وضع مختلف عن الوضع الإيراني الفارسي، إلا أن مجرد البحث عن خلق البلبلة في الخليج ( البداية من اليمن) هو الذي يثير المخاوف المشروعة والتي يبدو أن الشعب الإيراني تفطن إليها على اعتبار أن تلك الحروب الخفية تدار بأموال الإيرانيين، وبالتالي من حق الشعب الإيراني المطالبة بأن تصرف ماله عليه، وليس على الفتن الخارجية هنا وهناك! بدليل أن شعارات قادها شباب نشروها عبر اليوتيب جاء فيها (يسقط نظام الفتن) الذي ربطها أغلب الخبراء السياسيين بما يجري في دول الجوار، أي بالدعم الإيراني للحوثيين لقلب الحكم في اليمن عبر إحراج السعودية عسكريا. فكيف يمكن تصديق بعدئذ أن ما يجري في إيران سببه الأيادي الخارجية؟!
ما يبدو جليا أن إيران لن تكون كما الأمس، وأن إشكالية القوة المطلقة صارت قابلة للشك، ليس على الصعيد العسكري، بل على الصعيد الأمني الداخلي، وما يتم الحديث عنه في إيران عن العملاء والمرتزقة والخونة هم في النهاية نخب الشعب الأكثر حراكا، من المثقفين والعمال والطلبة وحتى العاطلين عن العمل، وليسوا بالضرورة من عشاق القومية العربية، بل هم إيرانيون يرون في النهج الإيراني الراهن خطأ خطير يمكن أن يقود ببلادهم إلى الكارثة، فالمتظاهرين ليسوا يتامى، لهم بلا شك أخ في لسلك الأمن والدرك والجيش ومن المستحيل أن يخرج ما يجري عن ذات الإشكالية التي حدثت للشاه نفسه وإن اختلفت الأسباب أو طالت النتائج، و فمن يرمي غيره بالحجر يجب أن ينتظر سقوط ذات الحجر على بيته الزجاجي! وهي الصورة التي بلا شك سوف تنتبه إليها تركيا ـ الحليف الإيراني الاستراتيجي في المنطقة ـ مثلما سينتبه إليها لبنان الذي يشكل لوحده جملة من الدويلات في دولة واحدة!
*نقلا عن موقع المسلم: