خلال إجازة العيد؛ صادفت شخصاً نقياً ورائعاً من أبناء محافظة صعدة، كان لديه مزرعة ويعمل في تصدير الفواكه إلى السعودية عبر منفذ البقع الجمركي التابع للمحافظة، كنت قد قابلته العام 2003م في مركز المحافظة على نحو عابر خلال زيارة صحفية لا تُنسى إلى العديد من مديرياتها رفقة الزميل العزيز فكري قاسم استمرت عشرة أيام، حيث أعدّ حينها لـ«الثقافية» ملفاً كاملاً عن السلفيين في المحافظة، والحاصل هو أن الصعدي الجميل بمجرد أن لمحني سرعان ما صرخ وهو بكامل ضحكته الأليفة: كم كنت صادقاً حين قلت إنها «صعدهار»..!!.
وطبعاً فإن كلمة «صعدهار» – على غرار قندهار الأفغانية - كانت هي العنوان الرئيس لمادة استقصائية طويلة لي عن المحافظة ونتائج الزيارة من عدة جوانب وحول عديد قضايا منها أقلية اليهود ومعهد دماج؛ مروراً بسوق الطلح «أحد أبرز أسواق السلاح في البلاد» ثم تشكّل الحالة الحوثية... إلخ؛ بينما نشرت المادة وقتذاك في صحيفة «الأسبوع» الأهلية التي كان يترأسها الأستاذ الكبير حسن العديني ويديرها الزميل القدير سامي غالب.
والشاهد أنني استغربت من ذاكرة الصعداوي اللامعة التي لم يصبها التلف رغم مفرمة الأيام على مدى 11 سنة، فضلاً عن أننا لم نتقابل منذ اللقاء السريع إيّاه والذي ترك في داخلي انطباعات عزيزة عنه كما عن كثيرين من أبناء صعدة الطيبين عموماً؛ غير أن صاحبنا تغيّر كثيراً وهرمت به الأيام، ولولا ذاكرته الطرية كنت لن أعرفه أبداً، أنا الذي أعتز بمراهنتي على ذاكرتي.
المهم؛ تعانقنا بمنتهى الحرارة، وفي غمرة ذلك كنا نتعانق بابتسامة كاملة جرّاء الشوق، وأيضاً بحزن كامل جرّاء ما حدث لصعدة ولأبنائها من مآسٍ؛ قال لي إنه غادر صعدة نهائياً قبل عام ونصف، ثم شرح لي مأساته الشخصية حيث ضاقت الأحوال في منفذ البقع تارة بسبب غشم العسكر، وتارة بسبب عسف المجاهدين، وما بين السببين عجرفة حرس حدود المملكة المجاورة، ثم مع ارتفاع مستوى النشوة في حديثنا المتبادل أكد لي أنه اكتشفت متأخراً أن تطرُّف أفكار أصحاب معاوية “يقصد السنّة” لا فرق بينها وتطرُّف أفكار أصحاب علي يقصد “الشيعة”.
وأضاف لكن بوجع استثنائي: الناس بسبب تلك الأفكار وصراعاتها المقيتة هناك يعيشون كأنهم في حالة عقاب جماعي، أما من ناحية المنفذ الجمركي فكانت عدة أطراف نافذة في البلاد تمارس على المورّدين الابتزاز في الجمرك، كما كانت في الجانب السعودي أيضاً عدّة مراكز نفوذ تعيش حالة صراع مع المورّدين، ترهقهم بشكل لا يُطاق.
وتابع: صدّقني كنت واقعاً في كماشة، وأنا أريد أن أعلّم أطفالي كل ما يجعلهم أحراراً وأصحاب وعي وينفعهم في مستقبلهم، ثم زادت الضغوط حين احترقت مزرعتي وأتلف محصول موسم بكامله وتخرّبت داري خلال الحرب السادسة 2009 - 2010م حتى إنني أفلست واهتنت مثل مئات المواطنين، ومن حينها لم أطق العيش خصوصاً أنني لا أريد أن أحمل السلاح أبداً، ولا يمكنني أن أرضخ لشيخ أو سيد، فلا أريد الرضوخ لغير قانون الدولة.
لكن: لماذا الدولة تبعد كلما أردنا الاقتراب منها..؟! - يتساءل بألم ويستدرك - لذا قرّرت الرحيل شاكياً حالي لمن له ملكوت السموات والأرض بدلاً من استمرار العيش بين المقابر التي تتكاثر فقط، وهكذا من خلال بيعي ذهب الزوجة بدأت العمل في بيع قطع غيار السيارات..!!.
كان الصعدي المكابر والحالم بمستقبل يصون كرامة المواطن يحبس دمعته المشرقة من الاندلاق حين قال لي ونحن نتوادع: قُل لي لماذا لم تفعل الدولة شيئاً لآلاف النازحين عن صعدة خلال ما مضى من سنوات، وماذا ستفعل في الأيام القادمة..؟!.
وإذ كان الرجل المكافح الذي لم ينكسر قد فضّل الرحيل أصلاً على انتظار الإجابة عن سؤاله، قلت في نفسي له: تُرى أية صدفة ستجمعنا مرّة أخرى لتتحوّل لحظات عابرة كهذه إلى سيرة حياة زاخرة..؟!.