المخاوف على الوطن وأجياله من مخاطر ومكاره مختلفة منها الخوف من تلك التي تبدأ بالدعوة إلى المذهبية والمناطقية والجهوية والتحريض عليها أو باسمها، وتنتهي بالكراهية، الخوف من نزعات ومصالح تبدأ بالإفساد والفساد وتنتهي باستباحة كل ما للقيم من أخلاق نبيلة وللمهن من شرف وأمانة والأوطان من سيادة.
الخوف من شهوتي المال والسُلطة التي تبدأ بالانغماس في ملذّاتهما، وتنتهي بالتهوّر في الاستحواذ والإقصاء وعدم القبول بالآخر، والتكيّف مع الخيانات الاقتصادية والسياسية إلى درجة التشريع لمساوئهما وموبقاتهما.
مخاوف كثيرة تتولّد في قلوب الوطنيين من السواد الأعظم من الناس في الوطن الواحد من فقيرهم إلى غنيّهم، من صغيرهم إلى كبيرهم، وتتجمّع في قلوب الشعراء وحملة الأقلام المقتدرين على حملها والتعبير عنها وتدوينها في سجلّات الشعوب.
والسبق في الحد من مخاطرها، والدعوة إلى التحصُّن منها بالمحبّة والقبول بالآخر والتنبّه إلى الإفساد بكل صوره، ولهذا يرى البعض أن للشعراء والمفكّرين تنبؤاتهم وحاسة الاستشعار المبكّر.
ما تمّت الإشارة إليه هو باختصار ملخّص لخاطرة من تلك التي يصطادها خاطري في لحظة من لحظات خلوة مع الذات للتأمل في حال الواقع المعاش ومستجداته المتلاحقة بآلامها ومواجعها، وربطه بما يتم استرجاعه من سنوات مضت.
استرجعت مواقف اقترنت بعملي كرئيس لقطاع الإذاعة اليمنية وتمثيلي له في اجتماعات اتحاد الإذاعات العربية الذي يُعقد سنوياً لمناقشة أمور متعلّقة بالمهنة ومستجدّاتها، وإقرار ما يتم اعتماده كاعتماد مسابقة سنوية للأغنية العربية الإذاعية، تُقام في الدولة التي تتقدّم بطلب الاستضافة، وقد استضافتها إذاعتنا لدورتين، وتشكّل لها لجنة من الفنانين والشعراء العرب، أما موضوعها فيحدّد في اجتماع الاتحاد وفقاً للرؤية القائمة على رفد المكتبات الإذاعية بالأغاني الهادفة ذات المضمون الذي يكمل الرسالة الإعلامية في التنوير والتوعية ونشر القيم النبيلة.
وبما أن إخوتي من رؤساء الإذاعات العربية كانوا يتعاملون معي كشاعر أولاً ورئيس للإذاعة ثانياً؛ فقد كانوا يدعمون ما أتقدّم به من مقترح لموضوع أغنية المسابقة، كما حدث عند اقتراحي في أحد الاجتماعات في العام 2004م أن يكون موضوع أغنية المسابقة هو «الأسرة الواحدة ـ البيت الواحد»، وكيف تُحمى هذه الأسرة أو البيت التي يرمز من خلالها إلى الأمة العربية كأسرة واحدة أو إلى الوطن كبيت يجمع الجميع، وقد أسهمت مع صديقي الملحّن أحمد بن غودل بقصيدة غنائية باسم الإذاعة اليمنية في هذا الموضوع وفازت بالمرتبة الثانية، حيث كانت المرتبة الأولى لمصر والثالثة لتونس، وقد حملت دعوة رمزية لحماية البيت «الوطن» مما كانت نذره تلوح في الأفق، وصرنا اليوم في اليمن أو البيت اليمني نعاني منه الكثير، ومما جاء في الأغنية المشار إليها:
على ربوة الحب
نبنيك بالحب بيتاً جميلا
يدفئه دفء أشواقنا
يزيّنه ضحك أطفالنا
يسيّجه فوح أزهارنا
وحارسه عندليب يغنّي لزهرة فل
وعنقود كرم تدلّى
أيا بيتنا
نريدك بحراً تغنّي النوارس فيه،
طلوع الصباح
ونهراً، تقبّل آمالنا شفتاه
بوجدان أم تعانق طفلا
إلى آخر المقطوعة التي اجتزأتها من قصيدتي «حقل الروح» مع بعض التعديلات لتصبح أو لتصير أغنية يشدو بها الفنان نجيب سعيد ثابت.
هكذا كانت مناجات المخاوف والأماني وكأن المصادفة أو الأقدار المكتوبة هي ما جعل اليمن ومصر وتونس تفوز بجوائز هذه المسابقة في العام 2004م وكأن الحاسّة تشاهد ما ستشهده الأيام في العام 2011م، وهل تلك الحاسّة هي ما دفع بي في اجتماع اتحاد الإذاعات العربية في العام 2008م للاقتراح بأن يكون موضوع أغنية المسابقة لذلك العام هو المحبّة والتحصُّن بها مما أصابنا بعد سنوات من هجمة شرسة لثقافة الكراهية والتوظيف السياسي للدين باسم المذهبية والتكفير، والإساءة إلى التعاليم الدينية ذات المنبع الواحد.
وقد شاركت باسم اليمن بأغنية «المحبّة» التي حصلت على المرتبة الأولى، وكانت المرتبة الثانية لتونس، والثالثة لمصر أو السودان لا أتذكّر، ومما جاء في تلكم الغنائية التي لحّنها الموسيقار أحمد بن غودل وأدّاها الفنان الصديق نجيب ثابت:
هو الحب،
فاشرح به الصدر، عانق هواه
واطلق ينابيعه في فؤادك
تروي زهور المحبة واشرب نداه
تعلّم من المؤمنين
من الأنبياء
من المرسلين السماحة دوماً
فلا يحمل الحقد قلبٌ تسامت رؤاه
لنحيا الحياة
كما شاءها من أتى رحمة، وسلكنا خطاه
سلاماً
وئاماً
إخوة أفئدة تلتقي
عند غاية إيمان واحدة في الصلاة .... إلخ
كان ذاك أنموذجاً لأعمال إبداعية شكّلها استنتاج مستقبلي من قراءة واستقراء الحاضر، وكيف صارت ما تضمّنته قبل سنوات من مستلزمات اليوم، كالدعوة إلى صون البيت الواحد والتحصُّن بالمحبّة والتسامح من سهام الفتن والكراهية..من المفارقات أن هذه الأعمال وأخواتها مما أسهمت به الإذاعات العربية العريقة موجودة في مكتبات وسائلنا الإعلامية ولكنها نائمة منذ أربع سنوات، أي منذ صار واقع الحال يستدعيها للإسهام في الدعوة إلى قيم نبيلة، وليس بوسع أحد الحريصين على الاستفادة منها بمن فيهم مستشار وزير الإعلام لشؤون الإذاعة والتلفزيون بالقرار الجمهوري رقم «269» لسنة «2013م» إلا أن يتوسّلوا لها بالدعاء قائلين: «عجّل الله فَرَجَها».