في واقعة اقتحام وزارة الدفاع ليس المهم التأكد من أنها تحمل توقيع القاعدة أو أن نمسك بالتنظيم متلبساً بالجرم أو أن نعتبر بيانه اعترافاً يدينه عملاً بالقاعدة القانونية «الاعتراف سيد الأدلة».. ففي حادث بهذا الحجم يمكن لأي تنظيم ارهابي أن ينسبه لنفسه لتوليد انطباع عند أعضائه ولدى الرأي العام بأن لديه الكفاءة والقدرة الخارقة على اختراق كل الموانع والوصول إلى مركز القيادة والتوجيه والسيطرة على الجيش.
الادعاء وارد في الحالات المماثلة، لكنه ليس كذلك في هذه الواقعة بالذات، فالشواهد ترجح المسؤولية وإن كانت تنفي الهدف المعلن، ذلك إن مركز القيادة التي توجه الطائرات الأمريكية بدون طيار يستحيل وجودها في مقر وزارة الدفاع وأبعد منه أن تكون في المستشفى الملحق بمبنى الوزارة.
ومن السذاجة أن نصدّق التصريحات القائلة بأن الارهابيين تناولوا حبوباً مخدرة لمجرد أنهم قتلوا كل من وجدوه في طريقهم للمستشفى. إن هذا يتنافى مع ما جاء في التقرير الأولي للجنة المكلفة بالتحقيق ومع ما ذكره شهود عيان من أنهم كانوا يتحركون بسرعة ونحو أماكن يُفهم منها أن كل منهم يعرف مهمته تماماً.
وفوق الاعتراف بالبيان والشواهد المرجحة هناك ستة من منفذي الهجوم تم القبض عليهم ولنا أن نتوقع بأنهم سوف يدلون باعترافات كاملة، ولكن السؤال هل هم يعرفون الحقيقة كلها؟ وهل الحقيقة محصورة في أن القاعدة نجحت في الوصول إلى وزارة الدفاع؟.
إن تقرير اللجنة المكلفة من رئيس الجمهورية لا يبعث على الضحك أو السخرية. إنه يشعل الغضب ويضع علامات استفهام كبيرة فهو لم يقدم أكثر مما يمكن أن يرويه ساكن العمارة المقابلة؛ ولقد وصفته اللجنة بأنه تقرير أولي، وهو في فحواه «لا تقرير» ذلك أنه ليس مطلوباً من اللجنة أن تخبر الرئيس بما حدث فقد حضر إلى المكان وعرف بل لقد جاء وحسم قبل أن يلحق به معدّو التقرير الذين استدعاهم للاجتماع.
والحق أن الرئيس تصرّف بشجاعة الجندي وبمسؤولية القائد ودهاء السياسي. فبحسب ما اعتدنا في زمن مضى أن يدعو الرئيس قادة الجيش إلى دار الرئاسة أو إلى أي مكان مأمون ثم يذهب لزيارة الجريمة بعد أيام يكون قد تأكد خلالها من سلامة كل بلاطة وكل حجر وكل قطعة خشب.
لم يكن المطلوب من التقرير أن يقدّم وصفاً لما حدث وإنما أن يفحص ويحلل ويفسر طبيعة الحدث وملابساته وأبعاده وأهدافه. والرواية في ذاتها كانت ناقصة ومبتورة، فقد اكتفت برواية ما وقع خلال الساعات الدامية كما لو أن السيارة المفخخة طبق طائر هبط من السماء وحط في بوابة الدفاع وإن المهاجمين كائنات خرافية جاءت معه للقيام بذلك العمل المجنون.
سنقول إن أربعاً وعشرين ساعة لا تكفي لإعداد تقرير يحيط بكل تفاصيل الجريمة ويحدد أهدافها بدقة ويمسك طرفاً من الخيط الموصل للفاعلين الأصليين. لكن المدة كافية للحصول على معلومة وافية عن تحركات السيارات التي استخدمت في الحادث خلال الأيام الأخيرة. ومنذ دخول السيارة المفخخة إلى العاصمة على وجه التحديد، وعلى نحو خاص، يمكن للمحققين أن يتوافروا خلال تلك المدة على معلومات عن الشوارع والطرق التي سلكتها السيارات والنقاط الأمنية التي اجتازتها واساليب التمويه والتضليل لعبور تلك النقاط، ودون التعجل في نشر أسماء الضباط والجنود القائمين على حراستها، فقد كان متوقعاً أن يضمهم كشف مرفق لرئيس الجمهورية مع الاشارة في التقرير إلى أنهم قد وضعوا قيد المساءلة.
تكمن علامات الاستفهام هنا وتذكر بأن ملابسات حادث اقتحام مقر قيادة المنطقة العسكرية في حضرموت لم تكشف بعد وأن التحقيقات حول تفجير ميدان السبعين في مايو 2012 اعتورها قصور كبير وضاعت فيها الكثير من الحقائق مما أفضى إلى صدور أحكام قضائية لا تتناسب مع حجم الجريمة وخطورتها.
وربما لم يرد المحققون تضمين تقريرهم استخلاصاً للرأي من استهداف المهاجمين مستشفى قبل أي موقع آخر في المبنى يمثّل أهميةً استراتيجية، أو لربما أن نشر هذا الموضوع غير مستحسن الآن من وجهة نظر صاحب القرار، لكن الواضح أنهم كانوا يبحثون عن شخص ما مكلفين باغتياله. ولقد جاء في تصريحات السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية أن الرئيس نفسه كان هدفهم وذلك هو الاقرب الى الترجيح بدلالة حرصهم على قتل كل شخص صادفوه في المستشفى بما يعني أن احتمالات تنكّر الهدف في زي طبيب أو مريض حتى وإن كان يخضع لعملية جراحية من الأمور الواردة في اذهانهم. أقول إنه مرجح دون أن اقطع بالرأي، فقد تبيّن أن أحد اقرباء الرئيس كان يرقد في المستشفى وهناك استشهد، كما أن من المحتمل أن يكون الرئيس قرر اجراء فحوص طبية اعتيادية في ذلك الصباح ثم ألزمته شواغله بتأجيلها. وإذا كان الامر كذلك فإنه على درجة من الخطورة بالغة إذ أن الرئيس يمارس مهامه من مؤسسة هي في واقع الأمر استمرار لا استحداث بالمطلق.
بهذا المعنى فإن العيون التي تراقب الرئيس وتترصده وتسعى إلى التخلص منه موجودة كذلك في مؤسستي الجيش والأمن كما هي في مؤسسة الرئاسة سواء بسواء. والمؤامرة على الرئيس هي مؤامرة على البلاد بالتأكيد كله خصوصاً في هذه اللحظة الفارقة حيث تجاهد قوىً بعينها لإفشال العملية السياسية. وعلى نحو ما تبدو حادثة وزارة الدفاع غير مقطوعة الصلة عن الجهود المحمومة لبتر المرحلة الانتقالية قبل استكمال مهامها، وهي بلغت في أحد وجوهها حد افتقاد الكياسة، حتى لا أقول إنها وصلت درجة البذاءة في التهجم على المبعوث الأممي؛ وفي شكواه إلى الأمم المتحدة لم يراع المؤتمر الشعبي العام التقاليد المعروفة في المراسلات الدولية وبدت مذكرته مضاهية في حجمها تقرير المفتشين الدوليين حول اسلحة الدمار الشامل في العراق عشية العدوان عليه 2003 أو لكأن معدي الرسالة تصوروا انهم يجهزون كتاباً لطلبة في المرحلة التأسيسية.
لست بهذا أومئ من قناة الرئيس السابق ولا أحاول بالدرجة نفسها توجيه الأنظار إلى حليفه القديم خصمه الآن، لكنني ألفت إلى مخاوف من أطراف لا تعدم الوسائل لإجهاض التحول السياسي الذي بدأ مع ثورة الشباب في فبراير 2011، ولا يبدو أن ثمة من الكوابح ما يمنعها من اغراق البلاد في بحر من الدم.
قد اذكر بالمناسبة حديثاً تلفزيونياً لقائد سابق في الجهاد الاسلامي المصري نبيل نعيم، وكان لصيقاً لاسامة بن لادن ورديفاً له في المسؤولية. قال بأنهم هنا كانوا مع تواصل مع بن لادن، وأنه «نبيل نعيم» زار صنعاء مع نفر من اصحابه وحصلوا على مبالغ مالية لقاء ان يتولوا اغتيال قيادات في الحزب الاشتراكي. قال ايضاً انه جرى توظيف بعضهم في الاجهزة الامنية برتب عسكرية على حسب سنوات عملهم في افغانستان «نقيب مقابل ثلاث سنوات، رائد مقابل اربع سنوات.. وهكذا».
وقد أقول والمؤامرة على هذا القدر من الخطورة ان التحقيق في واقعة اقتحام وزارة الدفاع يجب ان يستعان فيها بخبرات اجنبية بل بمشاركة مباشرة من دول اجنبية، لأن هناك قلقاً حقيقياً من نقص الكفاءة عندنا واهم منه من التواطؤ والتستر.
هناك ضحايا المان وفلبينيون. ومن الوجاهة ان تشارك الدولتان في التحقيق، ذلك ان التأكد من بصمة القاعدة لا يكفي واعتراف التنظيم أو الامساك به متلبساً يدلنا على طرف من الحقيقة بينما المطلوب الامساك بها كلها حتى نعمل سوياً مع المجتمع الدولي لإنقاذ البلاد من الوالغين في الدم المتحرقين إلى الفوضى.