هذه مناسبة تستحق التوقف عندها باهتمام وتقييم التجربة المتولدة عنها بموضوعية والحكم فيها بإنصاف، نعطيها مالها من فضل على الأمة ونأخذ ما عليها من مثالب وأخطاء.
المناسبة جليلة، 22 فبراير والحدث عظيم، وحدة سوريا ومصر. قد يتراءى للبعض أن الكتابة حولها ضرب من اللهو ممقوت وغير مستحب، في ظرف عصيب وفي واقع غاص بالفواجع، وقد ينظر إليه آخرون على أنه استعادة لأمجاد كانت هروباً من واجب التفكير بمخاطر حالّة ومآلات مفزعة. والحقيقة غير هذا وذاك، فليس في استذكار التاريخ أي لون من العبث ولا أية رغبة في الهروب من مطالب الحاضر واستحقاقاته، وإنما هي في وجه من الوجوه محاولة لاستخلاص الدرس والعبرة ودعوة لاستنهاض الهمة والبحث عن طاقة ضوء في نهاية السرداب المظلم.
حسناً، فقد مضت على الحدث ست وخمسون سنة جرت فيها مياه كثيرة في نهر السياسة العربية، وفي لحظات معينة تدفقت واقتلعت تقاليد سبق أن استقرت، ومنها على سبيل المثال إظهار الحشمة في الموقف من الوجود الاسرائيلي في المنطقة والخجل من كشف الصلف والتعامل مع العدو عياناً بياناً كما كان الأولون يقولون.
خلال هذه السنوات الست والخمسين غادرت مسرح الحياة أجيال أكملت رحلة العمر ودخلته أجيال جديدة، وفيها تحطمت دول وانهارت امبراطورية وتبدلت موازين وقيم ونظم حكم وانحسرت عقائد وقوى سياسية عبرت عنها، وتقدمت قوى غيرها تحاول ملء الفراغ لكنها لم تأتِ لتواصل وتكمل، وإنما جاءت طالبة ثأر أو مدعية بحق تنزل عليها من ملكوت السماء، ولم تستطع بسبب هذا غير إشعال الحرائق وإثارة الفوضى فدمرت بدل أن تبني وقتلت عوضاً عن أن تخلق أسباب الحياة.
ولم يكن أصل المشكلة في نبت شيطاني انبثق من غير بذر، فالأجيال السابقة انصرفت من الدنيا وهي في حالة انقسام. ثمة جماعة تعمل على جمع الأسرة العربية وتوحيد إرادتها وحشد جهودها لكي تحافظ على الملك المشترك وتبني فوقه وتسترد ما ضاع منه، وحتى تسلم الأجيال اللاحقة الحق الأصيل والمضاف كاملاً وضامناً حياة كريمة وآمنة، وأكثر منه أن تورثها الهمة والطموح كي تبني وتجدد وتصون ولا تبدد.
أراني انجرفت مع إيقاع خطاب جمال عبدالناصر يوم إعلان الوحدة “لقد قامت في هذا الشرق دولة جديدة ليست عادية ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، تنشد السلام وتتطلع للرخاء لا تتحزب ولا تتعصب ترجو الخير لها ولمن حولها وللبشرية أجمعين بقدر ما تتحمل وتطيق.”
لكن على الناحية المقابلة وقعت جماعات في إغراء الرفاه وغواية المتعة وافتقدت الصلابة والجسارة، ورضيت أن تفرط بالحق حتى لا تخسر هناءها بالسلطة واستمتاعها بالمال. ولقد بلغ بها الحرص على الحياة الوادعة مبلغ استثمار ما هو حق للأمة كلها في مناوشة الجماعة الجامعة وتفتيت الشمل. كان ذلك إشباعاً للغرائز وإرضاءً للمطامع، مطامع الأعداء الذين حققوا النصر حتى حين.
رغم ذلك فإن الأضواء لم تنطفئ تماماً والرايات لم تسقط نهائياً، فقد بقي بين الأجيال اللاحقة أيدٍ ترفع الأعلام وتوقد المشاعل وتسعى جاهدة ومصممة على أن تكبح الظلام وتهيء التربة من جديد لصروح المجد وبيارق العزة.
بعد هذه السنوات الطوال على أول وأهم تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث يلح السؤال حول عوامل انبثاق تلك التجربة وأسباب إخفاقها السريع.
ما كانت الوحدة العربية في أي وقت قدراً محتوماً على حد التعبير الأثير للمرحوم الأستاذ ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث الذي زاد “ما أحلاه من قدر”، وإنما هي عملية نضالية شاقة وطويلة للأمة بأسرها تقوم فيها بدور كتائب مناضلة، مؤمنة بها ومستعدة لدفع ضرائبها من العرق والتضحية، وأعتقد أن وحدة مصر وسوريا كما تحققت في فبراير 1958 اتخذت الطابع القدري، وأن دواعي طارئة فرضتها قبل أن تنضج الظروف وتتهيأ أسباب الاستقرار والاستمرار.
لم تكن الظروف الموضوعية جاهزة، لأن الأمة العربية كانت في ذلك الوقت تشق المرحلة المبكرة من الصراع مع الاستعمار التقليدي وتواجه، بالدرجة نفسها الاستعمار الحديث الذي حاول استبدال الغزو العسكري بالدعوة إلى الأحلاف، واستعاض البندقية بالشارات الثقافية وغير طريقته في استغلال الموارد من النهب المباشر إلى الشركات متعدية الجنسية. وكانت مصر ذاتها وكذلك سوريا قريبتي عهد بالتخلص من الاستعمار العسكري في صورته المكشوفة فلم تمضِ سوى ثلاث سنوات ونيف على توقيع اتفاقية الجلاء في نوفمبر 1954، ومرت سنتان على رحيل آخر جندي بريطاني من قاعدة السويس و11 شهراً على مغادرة الغزاة الذين لعقوا جراح الهزيمة عند شنهم العدوان الثلاثي لاسترداد القناة المؤممة. كما أن سوريا استعادت استقلالها غداة الحرب العالمية الثانية ثم تعرضت للتهديد بالغزو من 1957م قبل أشهر فقط من الوحدة.
كان الاستعمار حاضراً بجنوده في المغرب العربي والخليج وجنوب اليمن، ومتواجداً بالمتعاونين معه من الحكام والنخب السياسية والاقتصادية في شتى العواصم العربية. وحتى ذلك الحين لم يكن رجال الاستعمار قد فقدوا تأثيرهم على الحياة السياسية، وربما في دوائر السلطة، وعلاوة على التأُثير السياسي فإن النفوذ الاقتصادي بقي طاغياً وشديد السطوة من خلال هيمنة الشركات الأجنبية على المجالات الاقتصادية الحيوية (الصناعة على محدوديتها، والتجارة والنقل والخدمات المالية).
وكانت الجماهير شديدة الإيمان بالوحدة، لكن الإيمان العفوي ليس كافياً إذا لم يعزز بثقافة راسخة تؤصل لها وتبين تأثيراتها في تأكيد الاستقلال وتعميق الحرية وتوفير شروط التقدم.
ولا تنحصر محدودية الوعي وضعف الثقافة في مسألة الوحدة فحسب، فالمجتمعات العربية كانت أسيرة الأمية، فضلاً عن الجهل بالفنون والعلوم والآداب والثقافة بمفهومها الواسع.
ومع افتراض مستوى ثقافي ومعرفي أرقى، فقد كان الفكر الوحدوي في مرحلة الطفولة تمثله إصدارات قليلة لمفكرين رومانسيين يتصدرهم ساطع الحصري وقسطنطين زريق، إضافة إلى مقالات شاردة لزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وصلاح البيطار.
وقد شكل هذا الجفاف الفكري شيئاً متصلاً بتخلف الظروف الذاتية، حيث كانت القوى الحاملة لمشروع الوحدة في طور النشأة والمراهقة الفكرية (حزب البعث وحركة القوميين العرب). كانت الوحدة بالنسبة لهاتين الحركتين حلماً رومانسياً وأملاً معلقاً في السماء. ولم تكن الأحزاب التقليدية ذات التوجه القومي في الشام والعراق أقل رومانسية وأقرب إلى البناء الفكري المتماسك والمنهجية العلمية الرصينة. لقد فرضت الوحدة دواعي خطر يهدد سوريا. كانت التهديدات الأمريكية ما تزال ماثلة والصراع في الداخل على أشده بين الأحزاب السياسية، والجيش منقسم على نفسه في 22 كتلة جميعها تتأهب للانقضاض على السلطة.
وجاءت المبادرة من قادة الكتل العسكرية الذين توافقوا على إنقاذ سوريا من طيشهم يكمن في الوحدة مع مصر. وكذلك ذهبوا إلى جمال عبدالناصر ليضعوه أمام خيار ضياع سوريا أو الوحدة معها، ولم يفلح في إقناعهم بالتريث والنزول عند رأيه بأن الظروف قد تتهيأ للوحدة بعد خمس سنوات وليس قبلها. لقد قامت الوحدة تحت دواعي الخطر معتمدة على رصيد جمال عبدالناصر لدى الجماهير، ولم تتحسب للمخاطر والتحديات المقبلة.. وكانت التحديات والمخاطر قادمة من إسرائيل التي وجدت نفسها محشورة بين كسارتي البندق.وكانت هذه التحديات والمخاطر مؤكدة من الدول الغربية، إذ رأت أن جمال عبدالناصر يتقدم في مشروعه التحريري مهدداً مصالحها في المنطقة.. ثم إن الرجعية العربية شعرت بأن الوحدة تهز العروش تحتها، ومنها جاءت مخاطر مضافة، زاد إليها قوى اجتماعية في سوريا تنبهت للخطر، ثم تأكدت عندما مست مصالحها القرارات الاشتراكية في 1961م.
وبعد ذلك فإن القوى التي هربت من خلافاتها إلى الوحدة حملت معها تلك الخلافات إلى دولة الوحدة وساهمت بقدر كبير في خلق الأسباب التي ساعدت قوى الانفصال على الانقضاض عليها.. اليوم، وأمام محنة سوريا ومشاكل مصر ومآسي العالم العربي كله، يضع درس الوحدة والانفصال نفسه أمام الشعوب العربية وقواها الحية. هذا الدرس الثمين تنبغي قراءته بعناية وتمعن، فربما تفرض ضرورات تفادي المصير المأساوي استعادة الرجاء بوحدة عربية بشروط جديدة، خاصة وأن الفكر العربي تقدم طويلاً في هذا المضمار.. وربما أن خلاصته إنضاج الظروف وحساب المخاطر والإعداد لها بالأسلحة المناسبة وعدم الاعتماد على الفرد مهما كان دوره وارتفعت قامته.