يتراءى للمتابع العادي، فضلاً عن المراقب المهتم أن الأهداف الثلاثة التي أعلنها رئيس جماعة الحوثيين هي زوائد في جسد الهدف الحقيقي أو أنها قطع قماش في السربال الذي يتخفى فيه. والحوثيون منذ ظهروا كحركة لم يعلنوا أهدافهم صريحة واضحة، فرفعوا شعاراً ديماجوجياً ثلاثي الأبعاد اتخذوه صرخة يُفزعون بها السكان في اليمن، بينما لا تسمع أمريكا المتحكمة بأعظم مقدرات الأرض أو تأبه اسرائيل الهائجة على الفلسطينيين والمطمئنة إلى شتات العرب واحتراقهم في حروب طائفية تجليها المرعب ما يدور في أرض العراق.
إن صيحة تخرج من أفواه محشوة بالقات لن تقذف أمريكا واسرائيل إلى الهلاك أو تكتب على اليهود التقلب في الجحيم الأزلي، حيث الله وحده ملك يوم الدين ومالكها وسيدها الحصري كتب على نفسه الرحمة إلا من كفر، ومن كفر بعمله هو لا بحكم بشر يمنحون أنفسهم حق الولاية عنه والإنابة. إنه وهو الإله الواحد الأحد لم يلعن أتباع أي دين كافة، فالناس في رحمته سواء إذا اتقوا وآمنوا «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وفي آية أخرى يضيف المجوس إلى أصحاب الديانات الأربع، المؤمنين بديانة محمد واليهود والصابئين والنصارى.
ذلك عن سذاجة ما يسمونه الشعار وديماجوجيته، ومثله يتبدى في الأهداف المرفوعة من قبل زعيمهم في خطابه المذاع من قناة «المسيرة» قبل أمس الأول. وفي موضوع الإصلاحات السعرية فإن أكثر الناس تحفظوا عليها ما لم تتلازم مع إصلاحات شاملة تضمنتها الوثيقة الموقعة من حكومات سابقة آخرها حكومة عبدالقادر باجمال مع صندوق النقد والبنك الدولي، وقد تضمنت المبررات المطروحة من الحكومة الحالية إشارات إلى بعضها مع التغاضي عن أخرى وفيها تنفيذ المرحلة الثالثة من استراتيجية الأجور والمرتبات. ولم تزل هناك شكوك ومخاوف جدية من أن الاصلاح المزمع سيتوقف عند الإصلاحات السعرية بناءً على ما تقدمه الخبرة السابقة في التعامل مع هذا الملف. والجوهري في السياق أن الآثار المترتبة على تحريك أسعار النفط بمسافة طويلة من غير أن تتواكب مع معالجات جذرية للمشكلة الاقتصادية والإدارية في البلاد يستثمرها الحوثيون لأغراض يدركها الآخرون ولا يفصحون هم عنها. الدليل على هذا بادٍ في المسلك الغوغائي والمغامر سابقاً للعقل وطاغياً عليه بل ومُلغياً له. والتسليم بسيادة العقل يتتبعه أهمية أن تمتلك القوى السياسية رؤى وتصورات لحل المشكلة الاقتصادية وقد يستلزم بالضرورة عقد مؤتمر اقتصادي تحشد إليه أوفر العقول علماً في الاقتصاد والادارة المالية العامة والاجتماع من الداخل والخارج لمعالجة هذه الأزمة المستفحلة حتى لا تنتظر حلولاً من الخارج لمشاكلنا تنبثق عن مؤتمرات للمانحين تضع اليمن في موقع المتسول، وهي في النهاية ترميمات لبثور على السطح يمليها خبراء رأوا من بعيد أو استمعوا للشكوى ولم يبحثوا أصل المشكلة أو يغوصوا في أعماقها. ولهذا فإن خبراء البنك الدولي وصندوق النقد يتواضعون دائماً على تعريف الحلول التي يقترحونها للاقتصاديات المريضة في العالم الثالث بأنها وصفات. ومثل أي وصفة دواء فإن شرط الشفاء دقة التشخيص وإلا فإن العلاج قد يسبب مضاعفات وربما يكون سماً زعافاً. وكما تكون الأمراض المستوطنة في البيئات غير النظيفة غريبة عن الأطباء الذين يمارسون أعمالهم في مجتمعات متقدمة، كذلك الاقتصاديات الفقيرة التي تعاني من أوبئة خاصة لا ينجح في تشخيص أدوائها ووصف دوائها اقتصاديون اشتغلوا في اقتصاديات حديثة ومتقدمة.
إن هذا مقترح للمستقبل، وقد بني على ملاحظة فقدان القوى السياسية اليمنية التحليل والتشخيص وتصور العلاج للمشكلة الاقتصادية. ومن غير شك أن فشل المعالجات التي تعاقبت على امتداد عشرين سنة وأكثر ناجم عن هذا العيب، لأن الحكومة إنما تعبر عن الحزب أو الأحزاب التي تتولاها. وحيث تغامر الحكومات بحلول غير مدروسة فإن قوى المعارضة ينبغي أن تختلف معها على أساس واضح. وترتيباً على هذا بصدد المعالجة التي اتخذتها الحكومة فقد كان من الواجب على جماعة الحوثي أن تتبنى برنامجاً واضحاً، كاملاً ومتكاملاً لهذه المشكلة العويصة وأن تضعها أمام الحكومة قبل هذا الإجراء بكثير أو بعده إذا ما كانت غافلة من قبل. وفي وجود البرنامج تمتلك شجاعة القول بأن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، ثم إنها مع الإلحاح على الحكومة معنية أن تطرح برنامجها على الشعب وتجتهد في إقناعه به حتى يكون خروج جماهيره معها على بينة، لكنهم يدعون الناس إلى الفوضى ويدعونهم بلا هدى ولا صراط مستقيم، أي بلا برنامج واضح ولا تصوّر محدد. ويتفرع عن هذا الطلب الثاني المعلن بإسقاط الحكومة. وللناس كافة رأي في الحكومة وموقف منها. وثمة إجماع على أن الأحزاب لم تتوفق، عامدة أو ساهية، في اختيار ممثليها فيها، ثم كانت الطامة الكبرى أن أحد شيوخ القبائل استأثر فيها بنصيب لهيئة «المجلس الوطني للمعارضة» قام بتأسيسها من أشخاص ترعاهم إحدى شركاته التجارية، وقد قدموا أسوأ المثل في إدارتهم الوزارات التي كانوا عليها، مما اضطر الرئيس إلى استبدالهم بغيرهم. وقد نقل عن مجلس انتقد فيه حميد الأحمر الرئيس عبدربه منصور هادي لإقالته وزير المالية السابق فرد عليه الرئيس بسؤال استنكاري عما إذا كان حقاً عضواً في التجمع اليمني للاصلاح؟ ما يفيد أنه لم يطح بأحد من ممثلي الأحزاب الموقعة على المبادرة الخليجية ودون أن يضع أحداً مكانه من نفس الحزب. ولقد تكون إحدى مشكلات الحكومة في رئيسها الذي تنقصه الدراية بالاقتصاد ، لكن تغيير الحكومة من غير برنامج بديل ليس حلاً حاسماً ونهائياً، فهو قد تخفف من وطأة المشاكل، لكنه لن يجتثها من الأساس والجذور، ومن المناسب أن تتوافق الأحزاب على تشكيل حكومة أخرى يشارك فيها الحوثيون، وذلك أمر ينبغي ألا يواصل الإصلاح المتشدد فيه، لأنه بهذا المسلك يعقد أمور البلاد بأكثر مما تحتمل، فضلاً عن أنه مصمم على خوض معارك خارج سياق المقتضيات الوطنية في هذه اللحظة. والشاهد الفاضح لهذا المسلك هو معركته مع وزير الدفاع، إذ يريد وزيراً يخوض حربه ضد الحوثيين، وهي في المطاف الأخير دعوة مكملة لدعوة الحوثي بإشعال حرب مذهبية تمثل صورة يمنية لحرب داعش والمالكي في العراق. يقود هذا المطلب الثالث للحوثيين في دعوة رئيسهم السبت الماضي. إن مطلب تنفيذ مخرجات الحوار الوطني هو الزائدة الأكبر في جسد الهدف المضمر. ذلك أن أهم مخرجات الحوار والضامن لتنفيذ المخرجات الأخرى هو نزع السلاح عن الجماعات المسلحة. وعلى المرء أن يعفي عقله من التفكير لكي يصدق جماعة تهدد بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني بواسطة السلاح. والأمر قد يبدو رغبة إيرانية في الثأر من هزيمة تلقتها طهران في العراق عندما اضطرت إلى الرضوخ لتوافقات عراقية وإقليمية ودولية بإقصاء رجلها في بغداد نوري المالكي.
واللافت أن طهران بعثت رسالة إلى من تعنيهم عبر وكالة فارس في الخبر الذي بثته أمس عن أن جماعة الحوثي قسّمت العاصمة صنعاء إلى عشر مناطق نشرت فيها مئات المسلحين لإسقاطها في أيديهم. وإذا كانت الوكالة قد عادت وسحبت الخبر فإنه قد وصل إلى مسامع وأبصار من تريدهم. أن يسمعوا ويروا دون حاجة إلى التكرار والإعادة، وهي لغة مفهومة في الممارسة السياسية والعمل الدبلوماسي.
لكن, هل يغامر الحوثيون ينقل المعركة إلى صنعاء؟
ربما..وهل ينجحون؟
قطعاً لا. ذلك أن صنعاء 2014 ليست صنعاء 1948م. وكل ما يقدر عليه رافعو شعار «الموت لأمريكا» وأصحاب شعار «الإسلام هو الحل» أن يربكوا المشهد إلى حين وأن يرفعوا تكلفة التسوية السياسية.