لا يسير التاريخ على خط مستقيم، بل يمضي في طريق متعرج تقطع فيه الشعوب مراحل من التقدم المبهر وتتعرض لفترات من النكوص المريع. وبين الاثنتين يتبدى الاتجاه صاعداً باستمرار وناهضاً على الدوام.
حركة التاريخ بهذا المعنى جارفة تعبر فوق العوائق وتجتاز الحواجز، وإذا ما انعطف التاريخ في بعض محطاته، فإنما ليستأنف وثباته في المجرى العام، لكنه على الاطلاق لا يقوم باستدارة كاملة، يغير فيها اتجاهه.
لا يستوجب إدراك هذه الحقيقة التضلع بفلسفة التاريخ حتى يمكن أن نفهم سلوك كثير من القوى ومن الأفراد طغوا في السنوات الأخيرة على المشهد السياسي وطغوا فيه طغياناً بيناً وظنوا أن بمقدورهم إكراه التاريخ على العودة إلى حيث انطلقت رحلته الوثابة قبل نصف قرن تحركه إرادة شعبية غلابة وأماني وطنية سامية.
في تلك اللحظة منذ نصف قرن وضع الشعب في الشمال حداً نهائياً لحكم سلالي استبد به طويلاً بدعوى الحق الإلهي، حيث أودع الله حكمته في نبت معين من البشر يحكمون الناس بالهوى والطمع وبالإذلال والقهر.
وفي تلك اللحظة منذ نصف قرن ثار الشعب في الجنوب ضد أجنبي اغتصب أرضه وهيمن على مقدراته. ولم يكتفِ الشعب الثائر بطرد المحتل وحده وإنما استرد إرادته كاملة بالانتصار على المتعاونين المحليين معه من السلاطين والأمراء ومشايخ الإقطاع.
والحال أن الثورة اليمنية برافديها - سبتمبر واكتوبر - شهدت بداية من العام السابع والستين ما أسماه الدكتور محمد علي الشهاري رحمه الله «الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال». ففي حين غادر الاستعمار واستسلم السلاطين في الجنوب عادت القوى التقليدية في الشمال متلفعة عباءة الجمهورية، ولكن بالخمار الرجعي القديم.
ورغم محاولة تحمس لها الشهاري في كتاباته بمجلتي «الطليعة» و«روز اليوسف» المصريتين، لاستعادة روح الثورة، فإن قوى التخلف انقلبت عليها واستردت ما فقدته في 13 يونيو. لكن الارتداد في محطتيه الأولى والثانية 5 نوفمبر، 11 أكتوبر لم يكن عودة حاسمة إلى ما قبل 1962، إذ إن الثورة شكلت- أرادوا أم لم يريدوا- قطيعة نهائية مع الكهنوت القديم والسلالية المدحورة.
تجلت استحالة الرجعة إلى البالي والمندثر في أجيال جديدة من المثقفين وحملة الشهادات العليا ومن القوى الوطنية التي رسخت تقاليد ثورية وحملت نداء الوحدة وخيار الديمقراطية وأجبرت القوى الرجعية على القبول بهما. واستمر الصراع محتداً بين قوى المستقبل معززة بإرادة الشعب وتطلعاته وبين قوى الماضي محمية بالإرادة الخارجية.
ولقد حاولت الرجعية التي ارتدت ثوب الجمهورية أن تؤسس لسلالية وكهنوت جديدين، وتحالف السلاح والمال والدين ليبقيها على قيد السلطة حتى حين.
في هذا الحين خاض الشعب غمار ثورة دفع فيها كثيراً من الدم وكثيراً من الألم، لكنها ثورة لم تكتمل. فقد استطاعت هذه القوى أن تمارس عملية التفاف ذكية، ومع ما بدا من تصدع في جبهتها فإن ما تغير هو موازينها في الحكم دون أن تغادرها نهائياً. وربما أن الرئيس السابق شعر بأنه الخاسر الوحيد أمام رابحين لم يكونوا في حقيقة الأمر قد خسروا شيئاً أثناء رئاسته. غير أن الرئيس الذي ترك كرسي الحكم بقي في مقعد السياسة. ومن هذا المقعد أبقى على صِلاته مع المرتبطة به من قبل وزاد إليهم إنشاء تحالفات مع القوى الخارجة من مغارة التاريخ.
والمؤكد أنه لم تعد لدى الرئيس السابق أوهام باستعادة الحكم أو برفع ابنه إليه، رغم إيماءات تصدر عن رجاله، لكنه مسكون بهاجس الانتقام من الشعب مهموماً بإشعال حرب أهلية. وكان كرر أثناء الثورة أن البلاد ستشهد حرباً «من بيت لبيت ومن طاقة لطاقة»... وعند تسلم قوات الحرس الجمهوري أثناء ما أسميت هيكلة الجيش تبين أن الكثير من السلاح اختفى من المخازن، ولم يكن بعيداً عن هذا قوة الأسلحة الصاروخية والمدفعية التي استخدمتها جماعة الحوثي في قتالها مع ميليشيات الاصلاح.
ومن حسن الظن استبعاد اشكال من الدعم يقدمها الرئيس السابق لقوى وجماعات أخرى بما فيها مجموعات مسلحة في الحراك الجنوبي.
الآن وفي هذه اللحظة تبدو صنعاء محاصرة دون إعلان ودون اعتراف.
الآن وفي هذه اللحظة يبدو الجنوب ساحة لمؤامرة يديرها سلاطين مع مناصرين جدد.
وأيّاً ما كان من دور مباشر أو غير مباشر لعلي عبدالله صالح، فإن خروج القوى القديمة من الكهوف والمقابر هو ثمرة طبيعية لفترة حكمه وللبذور التي أُلقيت في الأرض اليمنية غداة انقلاب نوفمبر. فقد أوحى المشهد أن سلالات جديدة أرادت أن ترث السلالات القديمة، وأن سلطة دينية أستولت على مكان سلطة دينية قديمة وأن مظالم شيوخ القبائل أثل وأشد وطأة وأشد بأساً. وليس يهم الناس أن يكون الباغي من آل أي بيت. وربما ساعد الزمان على نسيان الجراح ويبقى ما يطفح في الجلد والقلب طازجاً.
ولا تتغذى الحرب من الآلام والضغائن وحدها فإن بريق المال يفقد العقول، خصوصاً مع قبائل اعتادت التعيش من الحروب.
ولكن أي مشروع يحمله الحوثي سوى الفتنة المذهبية؟!.
وماذا يستطيع القادمون من مغارة التاريخ غير تدمير الحياة !.