وما تزال السحب كثيفة والرعود قاصفة ومنذرة بمطر الدم. وكلما أبدى رئيس الجمهورية ليونة في التعامل مع الأزمة خرج عبدالملك الحوثي بموقف متصلب ينم عن رغبة حقيقية في تفجير الأوضاع غير عابئ بالنتائج الكارثية التي ستترتب على حماقاته وتهوره.
السحب السوداء تتراكم يوماً بعد يوم، منذ بدأ حشد المسلحين إلى مداخل العاصمة، والرعود كلمات تزمجر من فمه ومن قناته الفضائية ومن الصحف السيارة والألكترونية، والحارات معبأة بالسلاح والرجال المتعطشين للدم، ووراء الكامن والمخبوء تنصب الخيام للسلاح والرجال.
يخفي الحوثي مطالبه الحقيقية وراء مطالب شعبية مشروعة، فهو يتحجج بالجرعة الاقتصادية وبعجز الحكومة وفسادها وبالإلحاح على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وكلها من الحق الذي يراد به الباطل. إن رفع الدعم عن المشتقات النفطية قوبل برفض شعبي مطلق وبانتقاد صارم من مختلف القوى السياسية، كما أن تغيير الحكومة محل إجماع من هذه وتلك، والإصلاح وحده هو المتشبث الوحيد بالحكومة والمدافع الوحيد عن الجرعة.
لكن هذا الشعب المتأذي والمجروح لم يخرج بالسلاح، ولم تشاهد التظاهرات المدججة وهي تطوق مدن الغيظة والمكلا وعتق وعدن وتعز وإب والحديدة، ولم يرفع نداء الموت في مناطق يستطيع الحوثي وحليفه الجديد علي عبدالله صالح إحياء الموروث الرجعي وإذكاء روح المذهبية المقيتة والقبلية الرثة. وعقب قرار رفع الدعم انتفضت أغلب مدن الجمهورية منددة ومحتجة وبالوسائل السلمية والحضارية وحدها حتى إذا شوهدت جحافل المسلحين تحيط بالعاصمة، عاد الغاضبون أدراجهم في رسالة واضحة إلى أن الشعب على استعداد لابتلاع المر على أن يخوض في الدم ويغرق في الفوضى.
وأستطيع أن أقول باطمئنان إنه لو استجبنا لمطلبي إلغاء رفع الدعم وتغيير الحكومة، فإن الحوثي لن يرجع عن غلوائه، إذ ستبقى مخرجات الحوار الوطني هي مسمار جحا الذي تبحث عنه القبائل المسلحة في أزمة صنعاء لأنها تقتضي وقتاً طويلاً وتتحمل الجدال الشديد.
لكني أحسب أن الحوثي بحماقته وجرأته على البلاد والناس ضخ دماً جديدا في عروق الإصلاح وأعاده من شهقة الموت إلى حرارة الحياة. ربما أنه دون أن يدرك، يسدد ديناً تعاطاه من خصمه في وقت قريب، أو لعل الاثنين يقدران أهمية كليهما للآخر، فالجميع يتغذى من التطرف المذهبي والديني وليس منهما من يقدر على الحياة إلا في حمأة التحجر الفكري والبلادة الذهنية.
وليس من أحد يجهل أن الإصلاح حين استولى على أهم الوزارات في الحكومة مارس الفساد أبشع ما يكون، وبدلاً من ان يقدم نموذجاً طيباً يشد الجماهير ويسوقهم إلى الالتفاف من حوله أقدم على ممارسات جعلت وزراء المؤتمر الشعبي المتمرسين على العبث بالمال العام والوظيفة العامة بمثابة تلاميذ خائبين في مدرسة الإصلاح. إن آلاف الوظائف والدرجات العليا أعطيت لمن لا يستحقها إلا بفضيلة الولاء الحزبي ومليارات الريالات، بل عشراتها نهبت في وقت قياسي، وأضيف عشرات الآلاف من الحزبيين إلى قوائم الموظفين في الجهاز الحكومي وفي جهازي الشرطة والقوات المسلحة. فضلاً عن أن الإصلاح جاء إلى الحكومة بعناصر غير متخصصة فأوكل وزارة الكهرباء إلى ضابط شرطة ووزارة المالية إلى فني في أجهزة الرادار، وزاد فخلط بين التخطيط التربوي والتخطيط الاقتصادي الشامل، ورغم أن هذا لا يقلل من مدى الاحترام لدماثة أخلاق وزير التخطيط، فقد كان موقعه الطبيعي في إحدى وزارات التعليم. وليس وحده، فمن الممكن أن يقال في مثالب الإصلاح وفي مساوئ الحكومة أكثر مما قال مالك في الخمر. إن هذا وغيره وفر مناخاً ملائماً لمعارضة حية لم تستثمره القوى الوطنية المعبرة عن الضمير الشعبي واستفاد منه الحوثي وعلي عبدالله صالح.
والمؤسف أن هذه القوى القادرة على الحركة لا تستطيع أن تخرج من ثوبها البالي وتمد بصرها إلى أرجاء اليمن المترامية حتى تؤسس لمعارضة وطنية حقيقية تنهض على مشروع وطني واضح المعالم، فعملت على حشر الشعب في ذلك الثوب البالي والمتسخ والضيق.
لقد كان أمام الحوثي أن يستثمر الأخطاء كلها بما فيها الإجراء الأخير بإنجاز برنامج سياسي شامل وأن يوظف الإمكانيات التي يحشدها الآن للحرب في النضال السلمي من أجل الإسراع بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني وأولها إنجاز الدستور. وبالمثابرة والحركة الدؤوبة يستطيع أن ينافس في الانتخابات ويحصل على وجود كثيف في البرلمان وربما أغلبية تتيح له تشكيل الحكومة وتنفيذ برنامجه. وحيث يكرر في خطاباته أن الشعب معه، فإن أصوات هذا الشعب كفيلة بهذا النصر عبر الديمقراطية وليس ضدها.
لكن الحوثي وعلي عبدالله صالح لا يثقان بالشعب، ولذلك فإنهما يلجآن إلى التهديد بالحرب، ويعمل الأول مجاهراً بينما يشتغل الثاني من الغرفة الخلفية لصالة المسرح.
الآن يتبين أن عبدالملك الحوثي مصمم على مشروعه الحربي، فغداة تشكيل لجنة رئاسية للتفاوض معه ظهر على التلفاز في خطاب ناري دعا فيه إلى مرحلة ثانية، ثم كرر الشيء نفسه بعد تمديد عمل اللجنة وتزويدها بأفكار وتصورات جديدة لحل الأزمة فأطلق الدعوة للانتقال إلى ما أسماها المرحلة الثالثة من التصعيد.
يراهن الحوثي في حماقاته بمحيط صنعاء وداخلها على ميليشياته المدربة وعلى تعهدات من علي عبدالله صالح ووعود بانضمام كتائب عسكرية من الموالين له في إطار اتفاق يجمعهما، على أن يتولى أحمد علي عبدالله صالح قيادة جيش الإمام الجديد.. ويراهن الرئيس عبدربه منصور على حماس الشعب ضد الاحتراب الأهلي وعلى وعي القوات المسلحة بالمخاطر التي تحيق بالوطن وتتهدده بصورة خاصة.
وكذلك فإن الحوثي يدرك أن أي مغامرة هي فقزة في الظلام ومخاطرة إلى المجهول، لكن مبعث الخوف أن الحوثي لا يعمل لحساب نفسه فقط. وهنا فإن القرار الإيراني غير مأمون، وكذلك الإدارة الامريكية حيث تتبدى اللعبة واضحة بين الدولتين في إشعال الفتن الطائفية بسوريا والعراق ولبنان، وليس مستبعداً تماماً أن اليمن تدخل في هذا الإطار والسياق المرعب.
هذه مسألة مرهونة في النهاية بوعي الشعب ووحدته وليس بأي قرار إيراني أو إرادة أمريكية.