قليل من الشعوب يمتاز بالود والانفتاح مع الآخرين كالصينيين. فبينما البعض يفتخر بتراث امبراطوري قام على الغزو يفتخر الصينيون بأنهم لم يغزوا أو يعتدوا كأمة على شعب آخر. في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، قرر تشين بناء سور الصين العظيم بطول يتجاوز 6 آلاف كيلو، ليحمي دولته من غارات الأعداء. ومن اسم تشين جاء الاسم الانجليزي China. كانت حينها مجموعة دويلات. وتكشف الأزياء الصينية التقليدية التعدد العرقي. تنوع في الثقافات والأديان، وحتى اللغات.
تعتز الصين بأنها أمة مسالمة وحضارة عريقة. يعرض متحف جيانشي بمدينة نانشانج فنون الخزف. قالت فتاة: إن مصر والهند والصين هي أقدم الحضارات. أضافت: والعراق. غير أن بلاد الرافدين صارت أرضاً تقسمها النزاعات والفوضى برسوم طائفية.
عندما تحدثت لجين تيا، وتستعير اسماً غربياً «جيسي» ليسهل علينا حفظه نحن الأجانب: إن الصين هي الأمة الكبيرة الوحيدة ربما التي لم تغز أمة أخرى في تاريخها. قالت متباهية: نحن لا نعتدي على أحد إلا إذا اعتدي علينا. عندما جاء الأسطول البريطاني طالباً فتح الصين لسلعهم، قال الامبراطور: إن لديهم ما يكفي من السلع. كان أول احتكاك بالغرب في منتصف القرن التاسع عشر، وأجبرتها حرب الأفيون على الاستسلام. لكنها بدأت تكتشف عزلتها عن تقدم العالم.
بينما كنت أرتاح في كافيه من تعب السير تحت الحر، يطل على منطقة تجارية في مدينة نانشانج عاصمة مقاطعة جيانشي. أخبرت جان تيا عن مراحل التطور الثلاث لدى نيتشة؛ الجمل، الأسد، ثم الولد. أشرت لها أن الصين رغم كل ما حققه مازال بحاجة لبعض الوقت.
ربما ما قلته للفتاة لم يكن دقيقاً. ما أردته مجرد اقتباس مجازي، فالصين في مرحلة الولد، بتوظيف سطحي لفكرة نيتشة، ستكون قادرة على صناعة تكنولوجية متطورة، مازالت تشكل فجوة بينها والدول المتقدمة. إنه إحساس لا تخفيه النخب الصينية. أشار بروفسور صيني في محاضرته، متفاخراً، لشعار «صنع في الصين»، الذي يوشم منتجات عالمية، لكنه تحدث عن أن بلده مازالت متراجعة تكنولوجياً بالنسبة لأوروبا وأمريكا واليابان. في الواقع لم أكن دقيقاً؛ لأن الأفكار العميقة يشوهها التبسيط الأرعن. في عهد ماو كانت في مرحلة القدرة على قول لا لإرادة «ينبغي عليك» التي مثلتها آنذاك القوتان العظيمتان أمريكا والاتحاد السوفيتي. وهي الآن تسير في أول خطوات الطفل النيتشوي. ولا يعتقد بعضنا أن الطريق ستكون سهلة بل ستحاط بأخطار ومشاكل.
في عهد نابليون لم تكن الصين بالنسبة لأوروبا سوى ملاذ لسحر الشرق البعيد وخيالاته، وتنبه القائد الفرنسي حينها لقوة نائمة في أقصى الشرق. وصفها بالمارد النائم، وقال: «دعوه يغط في نومه؛ لأنه حين يصحو سوف يهز العالم». كانت حينها بلداً معزولة في قوقعة تقاليدها. عند بداية القرن التاسع عشر تنبأ بأن أمريكا وروسيا ستكونان القوتين العظيمتين في المستقبل، وتحققت نبوءته. لم ير العالم سياسياً بارعاً كنابليون رغم نهايته في جزيرة المنفى.
احتاجت الصين حوالي تسعين عاماً لتصحو من غمامة الأفيون وحبس التقاليد. غير أن تسعين عاماً أخرى تمشي في الطريق حتى غير الصين ميزان العالم.
لا تخفي النخب الحاكمة في الصين ما يواجه بلدهم من تحديات. هناك فجوة بين الريف والمدن، بين مناطق متطورة وأخرى مازالت شديدة الفقر. فبلد شاسع بعدد سكاني مهول لا يزدهر دفعة واحدة. ستنفق الصين مئات المليارات في السنوات المقبلة لتطوير مناطق واسعة وتمدين الريف الذي يشكل أقل القليل من نصف السكان. فكلما توقف التمدن عن التوسع كان عرضة لتهديد محيطه غير المتمدن.. تحدثت إلى جان تيا ذات العيون المسحوبتين كيرقتين، حول قصة الزنابق الذهبية. في الأزمنة التقليدية للصين، يشترط الباحث عن عروس أن تكون قدمها صغيرة. وكانت الأمهات تشد أقدام بناتهن برباط يضم أصابعهن إلى كتلة حديدية مع الشبشب لتحد من نموهن. يمارس الإجراء عذاباً لصبايا لا تعي معنى أن تكون القدم صغيرة. وعلى الأم تفادي السقوط في فخ الرحمة؛ لأن زواج ابنتها في المستقبل يتوقف على ذلك الألم. كانت الأقدام الصغيرة تُسمى زنابق ذهبية.
حطمت الثورة الصينية كثيراً من التقاليد البالية. وعندما تحدثتُ أنها أيضاً عادة يابانية. قالت منفعلة: إن اليابانيات كلهن بأقدام كبيرة. نافية وجود تلك العادة في اليابان. لم أخبرها أنها عادة صينية في الأصل انتقلت وراء البحر. كانت تنفي نعمة الزنابق الذهبية عن بلد يشكل جرحاً صينياً عميقاً، وكأنها تشنع باليابانيات. ليس للصيني ما هو أكثر شراً من الياباني.