سألني صديق: هل أدهشتك الصين..؟! كان واثقاً من إجابتي.. لدى كل منا طريقة في الدهشة تنبع من تقاليده، وهناك وجدتُ شيئاً خاصاً بي اكتشفته إذا سألتني ما هو، فلن أدري تحديداً بما أجيب.
تمتزج الحداثة والأصالة هناك بصورة لا تراها في بلد آخر.. يتحدّث الكاتب الصيني زانغ زيانليانغ عن الصين بأنه “بلد يصعب فهمه، ويشكّل لغزاً بالنسبة للغرباء، كما يمثّل أحجية بالنسبة للصينيين أنفسهم” غير أن هذا الغموض العصي من وجهة نظره هو ما يضفي على الصين سحرها، وكنت أسأل نفسي باحثاً عن تلك الأحجية، فهل اكتشفتها..؟! وسأقول متحاذقاً لأحدهم إنها تضع غشاء على عينيك لتحفظ أسرارها.
صادف أن اخترت كتاب “مائة عام من العزلة” ليرافقني في رحلتي الصينية، ذات يوم كانت الصين أيضاً أرضاً معزولة بصيغة السماء، الأباطرة هم أبناء الآلهة.. في عهد "ماو" للعزلة تصوّر ثوري وأرضي، ذات مرة أغرقها الانجليز بالأفيون لفتح عزلتها على السلع البريطانية، لدى الحضارة وجهها المأساوي، وعندما فتحت الصين أسواقها غزت العالم لأنها تفهمت الحاجة.
كان أول تحدٍّ يواجهني هو احتمال الساعات الطويلة منتظراً رحلتي إلى بكين كعابر ترانزيت؛ لكنه ليس تحدياً بالمعنى الحسّي، فقد وضعت رواية ماركيز أمامي، ولم يكن عملاً تُستحسن قراءته في جو مشحون بالسفر والانتظار.
شقّ الصوت النفاث للطائرة السماء، فانزلق جسدي يتلمّس نوماً عصياً، ربما بسبب خوف عندما اعتاد عليه يملأه ضجيج المحرّك، ما أن جلست على مقعدي تحدّثت إليّ فتاة صينية من بكين، قالت إن نانشانج ـ المدينة التي سأذهب إليها ـ تتمتع بتراث ثقافي، وفي الكرسي الفارغ بيننا احتل خمسيني متجهّم «يبدو أنه أبوها» مكانه ونظر إليّ منزعجاً.. ابتسمت الفتاة وكنت أنا من يريد متعجلاً وضع أول قدم في العالم الصيني، استلقيت معزولاً أمام النافذة، كتابي في جيب شنطتي الصغيرة، فيما نعبر سماء آسيا.
ما أن تقلع الطائرة نكون مستسلمين بالمطلق لحركتها، لقدرها، حتى في الحرب تتقدّم أو تفر، أما في الطائرة فأنت تسكن كرسياً وتنتظر وصولها.. كانت الرحلة تعبر بنا عكس دوران الوقت، تبدأ آسيا الحقيقية عند وديان السند، وتستقر في الصين كطفولة وشيخوخة، ومع أن اليمن وجزيرة العرب جزء من آسيا، إلا أنها تكتمل في التراتيل الصفراء، فأنا على وشك أن أرى وجه آسيا الأكثر عراقة.
في الطائرة إلى نانشانج، حدّثني شاب بعبارات صينية لا أفهمها، استعنت بانجليزية ضعيفة لخلق تفاهم وهمي، إشارات وأصوات غير مفهومة لبعضنا نسمّيها «لغات» لدى الصينيين رغبة في التعرُّف على الآخر، أخذت الرحلة من بكين ساعتين وربعاً جنوباً، واستضافنا مطار حديث لعاصمة مقاطعة جيانشي.
في عهد نابليون لم تكن الصين بالنسبة لأوروبا سوى ملاذ لسحر الشرق البعيد وخيالاته، وتنبّه القائد الفرنسي حينها لقوة نائمة في أقصى الشرق وصفها بـ«المارد النائم» وقال: “دعوه يغطُّ في نومه؛ لأنه حين يصحو سوف يهزُّ العالم” كانت حينها بلاداً معزولة في قوقعة تقاليدها، عند بداية القرن التاسع عشر تنبّأ بأن أمريكا وروسيا ستكونان القوتين العظميين في المستقبل، وتحقّقت نبوءته، لم ير العالم سياسياً بارعاً كنابليون رغم نهايته في جزيرة المنفى.
احتاجت الصين إلى حوالي تسعين عاماً لتصحو من غمامة الأفيون وحبس التقاليد؛ غير أن تسعين عاماً أخرى تمشي في الطريق حتى تغيّر الصين ميزان العالم.
لا تخفي النُخب الحاكمة في الصين ما يواجه بلدها من تحديات، هناك فجوة بين الريف والمدن، بين مناطق متطوّرة وأخرى مازالت شديدة الفقر، فبلد شاسع بعدد سكاني مهول لا يزدهر دفعة واحدة، ستنفق الصين مئات المليارات في السنوات المقبلة لتطوير مناطق واسعة وتمدين الريف الذي يشكّل أقل قليلاً من نصف السكان؛ فكلما توقف التمدُّن عن التوسع، كان عرضة لتهديد محيطه غير المتمدّن.
مؤخراً تحدّث مسؤول صيني أنه رغم وجود مناطق فقيرة في بلده لها الأولوية؛ إلا أنهم سيقدّمون المساعدات للبلدان الفقيرة، ومنذ عقد بدأ التطوير في الوسط، ليبدأ الآن في الغرب، وهي المنطقة الأوسع ضمن تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق استثمارية «الشرق، والوسط، والغرب».