في واحدة من التعليقات التي قلتها،إن الانتصارات تكون وراء معظم حماقاتنا عندما يبدأ الكاتب في الاستشهاد بنفسه، فهذه مرحلة عجيبة من التمتع بنشوة الثقة الخادعة أحياناً مع ذلك، ما كنت أقصده في تلك العبارة هو كيف مع الوقت تنحسر الانتصارات في اتجاه عكسي، لأنها بالمقابل تُغشي عين صاحبها، وتجعله يذهب بثقة خادعة. علّق أحد أصدقائي حول معارك الحوثي؛ ما إن كان يصر فقط على التحول إلى بندقية. وماذا ستفعل البندقية حتماً في أدغال مجتمع يعاني من التقسم والتضعضع؟.
يقول البعض: إنهم يريدون فرض أنفسهم عملياً على الواقع، مع تحوّل البلد إلى نظام أقاليم، أي في تأكيد أحقيتهم بهذا الإقليم الرئيسي والممتد على شريط جبلي، وعلى أحد أهم قيعانه تقع العاصمة اليمنية صنعاء.
ربما في إنجاز استعادة الخريطة المذهبية تأكيد الهوية المذهبية عبر تدمير مراكز دينية تتبع اطرافاص أخرى. والسؤال هو: لماذا يصرّ على ضرب هذه المراكز؟، بل والتباهي بها، غير عابئين بتوليد حقد مذهبي؟. فالحوثي يراهن حتماً على هذا البعد المذهبي في حضوره الاجتماعي وسط أحراش قبلية يمكن أن تشكّل مركز حضوره وتمدّده الجغرافي، والتي ربما يعتمد عليها بعد أن يضمنها في التنامي داخل المناطق التي لا تتبعه مذهبياً، أي باستحضار الخطاب الوطني الغائب اليوم ضمن خطابه.
فحيث يتواجد الحوثي يتساقط العلم اليمني، ولا يحضر سوى شعار الخميني «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل...»، أي يتم تفريغ اليمن من هويته وحتى نكون منصفين، فلم يكن وحده الذي أراد تفريغ اليمن من محتواه الوطني، بل أيضاً ساهمت إحدى القوى باعتبارها حركة دينية أكثر منه اتجاه سياسي وطني، بل أيضاً أعطت الحوثي تبريراً، لأنها فتحت الأبواب لكل ما هو ديني على حساب ما هو وطني. وبالطبع ساهم نظام علي صالح بصورة رئيسية خلال العقود الثلاثة بتفريغ كل ما هو وطني عبر عقيدة الفساد النهمة لتحويل كل المصالح في الدائرة الضيقة الخاصة به. وهذه الثلاثة عقود كان بطلها فقط، وربما واجهته المشعة بتحالفات تقليدية.
فاليمن منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر ثم الوحدة أخفق في أن يتحول كيان دولة حقيقي وإذا أعفينا بصورة ما، مرحلة حكم الجنوب، بما إنها حافظت على إدارة ورثوها من الاستعمار البريطاني، كانت أكثر حداثة من إدارة هشة نسج بها نظام الإمام الثيوقراطي في الشمال. ثم أن تلك التحالفات العشائرية والقبلية ظلت تشكّل المخنق الحقيقي لقيام فكرة دولة حديثة، على الأقل بمعنى المؤسسات البيروقراطية لفكرة الدولة، وليس بالمعنى الديمقراطي. ومع ذلك هل يمكن أن نلغي أو نتعالى على هذا الوجود القبلي والعشائري في اليمن؟، أي أننا لا ننتمي له باعتبارنا كيانات متعلمة؟. في الواقع، هناك فشل، سواء داخل الدولة أو الحركات السياسية بالتقارب مع المجتمع التقليدي. فكان على الدولة ان تراهن على تحديثه، عبر تنمية حقيقية، مثل نظام تعليمي وصحي جيد، وأنظمة قضائية وتشريعية تؤكد حضور الدولة. وبدلاً من ذلك، تُركت تلك المجتمعات العشائرية لمراكز النفوذ التقليدية، بل إنه في فترة صالح تم تقوية المشائخ، واستفادوا عبر تسهيلات اقتصادية كبيرة. حتى إن بعض توجهات الفساد كانت تذكّرنا بحكام أو ملوك سذّج عاشوا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، باعوا مصالح هائلة بثمن بخس.
وحين لم يتمكن الخطاب المنتشي بقيم التجديد من اختراق تلك المجتمعات العشائرية، تُركت لخطاب ديني تأثيره سهل بما إنه حاضر في الوعي العادي، والراكن على المشاعر والعواطف العقائدية. وهذا ما استثمره حزب الإصلاح خلال السنوات القديمة. ثم يحضر اليوم خطاب يعود إلى مرحلة ما قبل جمهورية، هويته وطموحه، بما رنه يغذّي هذا الصراع، فمع اندفاع رجال بعض القوى السياسية، للغرق في فاترينة صالح نفسها، أي الفساد، وعدم تفهم الحاجة الاجتماعية والسياسية، فإنها أخفقت، وبدأت مصالح شتى، مصالح خاسرين، وطامعين، تبحث عن خطاب آخر، أياً كان، غير مستوعبة مخاطره على اليمن ككل، لكن من أجل مواجهة موجة نهمة من السيطرة على الحكم. فالحافز دائماً حاضر لمراجعة المصالح وحمايتها، لكنها تكون مستغفلة بالوهم الذاتي والشخصي.
فحلفاء صالح اليوم يستعيدون دائرة هويتهم السياسية حتى في الحاضن الديني المقابل لعدوهم الرئيسي وهو الإصلاح، وعندما كنا نحذّر من أخطاء الإصلاح وما سيؤول إليه الواقع السياسي نتيجته، سواء على الصعيد الوطني أو حتى على مصلحة الحزب نفسها، فإن الأمر نفسه سيحدث حين تكون هناك محاولة للاستيلاء على الحكم، وإن بقوة السلاح، وإن تحققت بفتوحات وسط العشائر، فالأمر ليس كما نراهن، إذ أن اليمن برمّتها إما أن تكون بلداً يحتوي الكل، أو تشرذمات لأمراء الحروب.