كان التصفيقُ يرُجّ الملعب الضخم في مدينة رُوما العاصمة الإيطالية في أحد صباحات بطولة العالم لألعاب القوى للناشئين2009 . وكان الفتى اليمني المشارك ذو الخمسة عشرعاما نبيل الجِربي مُرتبكا لايعرف كيف يرُدّ التحيّة . فهذه أوّلُ مشاركةٍ دوليّة له ! مِنْ معْبَرْ إلى رُوما ! ثمّ إنّ المركز الرابع في تصفيات البطولة لايستحق كل هذا التصفيق ! لكنه أدرك بسرعة سِرّ الإعجاب والتصفيق عندما أحاط به الأبطال المشاركون يُحيّونه مبتسمين ويتأمّلون أقدامهُ الحافية مبهورين ! . . لقد شارك وتفوّق حافياً بلا حذاءٍ رياضي في سباق 3000 متر !
كانت لحظةً لا تُنسى ! حاول الفتى الحزينُ خلالها أن يرُدّ التحيّة وأن يبتسم ! واستطاع بعد مغالبةٍ قاهرة أن يبتسم بالفعل . إمتلأت عيناه بالدموع . . كان يريدُ أن يصرخ : شكرًا لكم . . هل تعرفون أنني لا أمتلك حذاءً رياضيا بالأساس ! شكراً لتشجيعكم وتصفيقكم . . أريد فقط أن تراني بلادي وأن تصفّق لي أيضا ! هل تراني الآن ! كان الفتى يتساءل متلفّتا ملتاعا !
عاد الفتى إلى وطنه مزهوّاً بأكاليل الإعجاب ، وكانت الصّدمة الأولى فوْرَ وصوله إلى مدينته معْبَرْ . فمدينته الحبييبة لمْ تستقبله كما تخيّل ولمْ تلْقهُ كما تصوّر . كانت كالعادة متلفّعةً بالغبار مثقلةً بالظّلام . لكنّ عزائمَ البطل لاتُفل ، وهِمّاته لا تكل ! فمع إشراقة اليوم التالي كان قد ذرَعَ قاع َجهران بعزمٍ عجيب وتصميمٍ غريب كأنّه أميرُ صعاليك العرب عُرْوة بن الورد !
كان الفتى يؤوبُ إلى بيته داميَ الأقدام مجرّحَ الأرْجل ، . . ما أعْنَدَ شوك قاع جهران وما أكثر حصاهُ وجنادله ! كان ثمّة هاتفٌ رائعٌ في داخله . . كانت رُوما ! كانت أصواتُ الأكفّ تملأ روحه وترجُفُ في رأسه متماهيةً بدقّات قلبه ! وهو الذي لم يمتلك يوما ساعةً رياضيةً للجري ! كان قلبُه باستمرار هو الساعة ! ودقّاته ثوانٍ محسوبةً دقيقة..
يصبح الفتى بطلا للجمهورية 2013_2007 وما يزال ! ويُحرِزُ المراكز الأُوَل في عمّان والخرطوم ومسقط وكوريا ، ويحصد ميداليّاتها . . لكنّ هنيهات رُوما تظلّ في روحه حنينا مشتعلاً لا ينطفئ . . وتوقاً لذيذًا لا يُنسى !
في قلب الفتى غُصّة . لقد صفّق له العالم ولمْ تصفّق له بلادُه ! البلادُ التي أدْمنتِ التصفيق لهوامّ الكائنات وزواحف السّاسة المُسوّسين لا تصفّق لأبطالها ! ربّما لأنها لا تعرفهم ! لذلك , يكتئبُ الأبطال , وينكسرُ الشعراء , ويموتُ الفنانون !
يتأمّل البطلُ ميداليّاته . . يضحكُ عندما يُمسِكُ نفسَهُ متلبّسا بفكرةِ بيعها ! ولكنْ مَنْ يشتري ؟! العزمُ الذي طوَى قاعَ جهران انطوى ! .. والهِمّة التي طالت الذّرى هَمَتْ . . وهمَدَت ! رغم انّه لم يتجاوز الواحدة والعشرين من عمره !
هل تلاشى كل شيئ ! شيئٌ واحد تبقّى . . في أغوار الروح ثمّة أكُفٌّ تبرُق وتصطفِق بين الجوانح . . صيحاتُ رُوما ماتزال تدوّي بين الحنايا . . العيونُ المحبّة تلك ! هل أراها ثانيةً .. هل كان حُلماً ! يتساءلُ البطل وسط غبارِ مَعْبَرْ وقيامتِها الدّائمة .
تجُوبُ عيناكَ مَعْبَرْ . . تبحثُ عن البطل وسط أكوام الطماطم وآكام البطاطس . . مَعْبَرْ سلّةُ غذاءِ اليمن تختنقُ بالغُبار والفوضى والوَحْل المُعتّق !
أين هو البطل يافتيان المدينة !؟ لمْ يسمعْ بهِ أحد ! في معْبَرْ لا يسمع أحدٌ أحداً ! مِنْ أهوال الضجيج ولعْلعةِ الرصاص وأبواق السيارات وفوضى الدّراجات .
في سوق القات وعلى الرصيف . . تلمحُ شاباً شديدَ النّحول مثلَ عودِ كبريتٍ مُشتعل ! كان قابعا في الزاوية لا يكاد يرفع رأسه فهو مُنهمكٌ في بيع القات ! . . إنّه هو ! البطل ! بطل الجمهوريّة ! . . ساحرُ رُوما ومسحُورُها . . نبيل الجِربي !
اتبعنا على فيسبوك