كنّا بحاجة إلى استراحة رمضانية من الاهتمام بالشأن العام الذي يغلب عليه الطابع المأساوي؛ حيث الصراع والقتال والتفجيرات والتخريب وأزمات الديزل والكهرباء وما إلى هذا الوادي ينتسب.
والجميل هذا العام هو أن رمضان جاء متزامناً مع «كأس العالم» المقامة في البرازيل؛ فكان ذلك مناسبة استثنائية لإراحة الذهن بمتابعة «الحرب العالمية الكبرى» في ملاعب كرة القدم؛ وهي التي يسمّيها حسن عبدالوارث «أجمل حرب في العالم» منافسات نستعبد معها اخوتنا الإنسانية على هذا الكوكب..!!.
شجّعت المنتخب الأمريكي أمس الأول، وتألمت لهزيمتهم وخروجهم، وبعد المباراة اندهشت من سحر كرة القدم الإنساني؛ كم هي معطاءة هذه الكرة المستديرة؛ إذ تبعث فينا إحساس الأخوّة الإنسانية من جديد على هذا الكوكب الأرضي الذي يشبهها في استدارته؛ غير أنه يناقضها بتاريخه القائم على العنف والتدمير كقانون سائد بين سكّانه على مر العصور.
يقال إن التحديق المستمر في الهاوية يجعلك جزءاً منها، والانغماس المستدام في متابعة «الأزمة» يجعلك جزءاً منها أيضاً، ولهذا خطر في بالي أن الانقطاع عن متابعة الأخبار اليومية هو «الحّلْ» وأن انقطاعاً جماعياً عن متابعة الدوّامة اليومية المأساوية المستمرة سيجعل كل «العُقَدْ» تتفكّفك من تلقاء نفسها، أو على الأقل سنكسب راحة البال بدلاً من الصخب الذي يخلّفه إعلام التحريض والإثارة والتسريبات والترويج لمراكز القوى التي تخوض الجزء الأهم من معاركها عبر الإعلام؛ ذلك أننا منذ أكثر من ثلاث سنوات وأذهاننا مشدودة تكاد أوتارها أن تنقطع، وأرواحنا مستنفرة تكاد أنفاسها أن تتقطع، وحياتنا مطبوعة بالأزمات اليومية التي تكاد أن تفقدنا صوابنا وعقولنا..!!.
الواقع ثقيل وبائس، والصورة الإعلامية المنقولة عنه أكثر ثقلاً وبؤساً، والذهن الذي يتعلّم الاهتمام والمتابعة ويدمن عليهما عليه أن يتعلّم غض الطرف وإشاحة النظر وأخذ وقت مستقطع يفرغ فيه ذهنه من كل اهتماماته وزحمة مونولوجاته.
ذلك أن سيل الوقائع والأخبار والقضايا والقنوات والصحف ومواقع النت الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ كلّها تتشكّل كسيل جارف يمكن أن يجرف في طريقه استقلاليتنا كأفراد وهدوءنا، ويعكّر أمزجتنا وحياتنا، ويأسرنا في دائرة جافة مغلقة نفقد معها حرية حركتنا وصفاء تأملاتنا.
وإذا لم يمتلك المتابع القدرة على تجنّب هذا السيل الإعلامي الجارف في بعض الأحيان وترشيده أحياناً أخرى واستعادة المستوى المعقول لخصوصيته والفهم المتجاوز في ذاته كل حين؛ فإنه يودي به وفي أحسن الحالات يشوّشه ويمرضه ويصيبه بالاضطراب، والواقع وكلافيته ومآسيه كلها كوم، والتغطيات الإعلامية كومٌ لوحدها.
الإشكال الأكبر هو أن السجالات السياسية والنقاشات في الشأن العام تخلو من الأبعاد الفكرية العميقة التي تثري الذهن وتنعش الوجدان؛ لا جدل، بل محض كِرّاحْ صاخب، واستقطابات مقيتة وتحريضات شريرة وتعبئة ممقوتة وتسريبات موقوتة.
***
ثلاثون ذراعاً يشاركون في محور العجّلة
ولكن الفراغ الذي في قلب المركز هو الذي يجعلها نافعة
اصنع من الطين إبريقاً
الفراغ الذي بداخله هو الذي يجعله صالحاً للشرب فيه
افتح للغرفة أبواباً وشبابيك
يبقى الفراغ مصدر نفعها
بعض المكاسب تأتي من الوجود
أما النفع الحقيقي فيأتي من اللا وجود
«من كتاب الطاو؛ للحكيم الصيني لاوتسيو».
musraj2003@hotmail.com