قبل سنوات قرأت مقولة لفضيلة الشيخ الباقوري؛ ها أنا أستشهد بها للمرة الثانية، يقول الشيخ الذي تقلّد الوزارة في عهد الزعيم الخالد الذكر جمال عبدالناصر “يُصابُ من يتقلّد الوزارة بالجنون مرتين في حياته، عندما يجلس على كرسيها وعندما يغادره”.
مقولة حكيمة صادرة عن تجربة، تحمل نصيحة مبطّنة لتجنُّب جنون الوزراء ـ عند تبوّؤ الوزارة وعند نزعه من كرسيها ـ وبما أن جنون دخول الوزارة، غير جنون الخروج منها ـ من وجهة نظري ـ فلنترك أو ندع الحديث عن جنون الخروج الذي أشبهه بما يصفه علماء النفس بـ«حالة الاكتئاب الانفعالي» ولنقف وقفة سريعة مع جنون الدخول، وهي في اعتقادي حالة نفسية تقوم على الرغبة الشديدة في القيام بما يلفت الأنظار ويجذب الحضور الإعلامي ويمنح المهابة والاحترام ويبرز صاحب الشأن كصاحب قرار، يجب أن يختلف التعامل معه عمّا كان في السابق.
هذه الحالة تدفع بصاحبها إلى ممارسات، منها اتخاذ شيء من القرارات وترشيحات التغيير والتعيين ـ التي قد يكون بعضها متسرّعاً ـ القيام بما يجذب الأنظار إلى ما يقوم به من تغييرات الاستئناس والتجاوب السريع، مع من يجيدون النفاق والتزلُّف، ومن يأتي ليمط رقبته أمام الوزير ليقول له أنا هنا أو أنا رجلك المخلص المُحب.... إلخ.
ولتجنُّب جنون هذه الحالة ينبغي إدراك أمور منها عدم التسرع في اتخاذ القرارات المرتجلة، عدم التجاوب مع أهل النفاق والتزلُّف، مدركاً أن الكفاءات المطلوبة ليست بين صفوف هؤلاء ومن يتقاطرون إلى مكتبه حاملين نفاق المجاملات أو سيئات النميمة والكيد للآخرين؛ أن يدرك تماماً أن الكفاءات هي التي تفرزها عملية الفحص المجرد، ويتم البحث عنها وإن بالذهاب إلى منازلها.
وبما أن حالة جنون دخول الوزارة ـ خاصة للمرة الأولى ـ حالة يصعب الفكاك منها؛ فإن من المفيد امتصاص حالتها وتوجيهها بما هو إيجابي وبنّاء يمكنه أن يشغل حماس الوزير ويستوعب نشاطه وأن يحقّق المطلوب من الظهور والحضور، والاحترام والمهابة وحسن التعامل، وهذا ما يمكن أن يتحقّق باتخاذ خطوات أولية منها على سبيل المثال: أن يكون الوزير شديد الإيمان بما للمسؤولية من أمانة وشرف يمليها ويحتمها واجب القبول بحمل الأمانة، وما تمليه وتحدّده المصلحة العامة، لا مصلحة الحزب أو التيّار الذي يمثّله أو دفع به أو يشعره أنه صاحب الفضل والرقيب عليه.
أن يكون سيد قراره وقناعاته عبر القنوات الرسمية السليمة، وليس عبر تلقّي رغبات وإيحاءات الحزب أو التيّار، أو من يفرضهم عليه، كرقباء لا معاونين وذوي خبرة.
أن يقوم أولاً ـ بإرادة حرة ـ على ما يحفظ المال العام ويحميه، ويرشّد إنفاقاته، وتجفيف منابع الفساد في وزارته أو حيث تستطيع يده أن تصل، مميّزاً بين ما هو حق وقانوني وما هو عبثي وإفسادي، وأن يكون هو القدوة الأولى لمن يريد تقويم اعوجاجهم، أو أن يأمرهم بالبر. أمام كل وزير جديد ـ على أمل أن تكون الحكومة جديدة بما تعني كلمة جدّة ـ أمامه ما يمتص حماسه ويحقّق له الحضور المطلوب واحترام وتقدير من يتعامل معهم بل وعامة الناس، ومن يقوّمون أداءه وينظرون إليه في إطار من يمثّل في حكومة وفاق وشراكة وسلم، أمامه الكثير من المهام المطلوبة أو المطلوب منه القيام بها في إطار أو دائرة مسؤوليته وموقعه كمسؤول أول لتحقيق التحوُّل الذي لابد منه، والنقلة المطلوبة من عهد جديد ومرحلة مختلفة أو غير مستنسخة من وضع وقع بالشارع الباحث عن دولة متكاملة الأركان إلى ما تحرّك من أجله وضحّى في سبيله.
أمامه الفساد، العبث، التوظيف الشبيه بتقسيم الغنائم، القوارض التي تنهش في جسد الدولة ومصادر دخلها ونفقاتها وهيبتها، وفي أمانة المسؤولية وشرفها.. ونعوذ بالله من شرور تلك القوارض.
ليس المطلوب منه أن ينتقم أو يهمّش، أو يسقي البعض من كأس جرّعوا الآخرين منها، أو يتخذ القرارات الفردية بدوافع عاطفية أو حزبية، أو أن يثير مشاعر قهر وسخط، بل المطلوب منه أن يعكس وضعاً جاء برجال دولة، لا رجال أحزاب أو جماعات، أن يعكس جدية ومصداقية مطلب شعبي حمل مسؤولية أمانته، وهو إنقاذ الدولة من عوامل أو فيروسات ضعفها ووهنها، وأن يعيد ثقة الشعب بها.
أقسم، وأقسم أن موارد الدولة إن ضُبطت، ونفقاتها إن رُشّدت، وهيبتها إن استعيدت، وقانونها إن تساوى الناس أمامه، لسلمنا من إراقة ماء الوجه، وكان اليمن هو الدولة المحورية في المنطقة، ويمكنكم ـ وأولكم القرّاء ـ اعتبار هذه نصائح قديمة لوزراء جدد؛ نخشى عليهم من جنون دخول الوزارة الذي قال الشيخ الباقوري نصيحته المبطنة.
ملحوظة:
كتبت هذه الخاطرة قبل إعلان الحكومة وأداء القسم القانوني لرئيسها الذي نتفاءل فيه خيراً، ويكفيه أنه كان محل ثقة الإجماع.