أخطر ما تواجهه اليمن في هذه المرحلة هو وجود سلطتين فرضتهما الأحداث الأخيرة التي بدأت بما سمّي بحرب «دمّاج» مروراً بالأحداث في «حاشد» و«عمران» إلى أن وصل الحوثيون «صنعاء» يوم 21 سبتمبر الماضي الذي تمّ فيه التوقيع على اتفاق السلم والشراكة الوطنية من قبل الأحزاب والمكوّنات السياسية برعاية أممية وبحضور الرئيس عبدربه منصور هادي الذي أعلن بعد ذلك أن صنعاء لم تسقط وأنها تحت سيطرة الدولة, وظل يمارس مهامه الدستورية حتى يوم تقديم استقالته المفاجئة, وتأكيده المتكرّر أنه لن يتراجع عنها؛ ما أوجد فراغاً في السُلطة وخوفاً كبيراً من الانهيار, غير أن ظهور الرئيس في عدن شكّل بداية التنازع وبصورة حادّة بين سلطتين متناقضتين ومتصادمتين على قاعدتين من التحالفات السياسية والاجتماعية المتباينة, تتنازعان الشرعية والجغرافيا والهيمنة, ففي صنعاء "عاصمة الدولة" توجد سُلطة ما يسمّى بحركة «أنصار الله» التي تستمد شرعيتها من الواقع المفروض بقوة السلاح أو ما تسمّيه بـ«الشرعية الثورية» ومن حاضنة اجتماعية وجغرافية واسعة تدعمها إلى جانب استمرارها بالمشاركة في الحوار وامتلاكها على الأرض الكثير من عناصر ومقوّمات قوة السُلطة أبرزها السيطرة على العاصمة التي تمثّل عقل الدولة ورمز سيادتها وسُلطتها, إلى جانب البنية المؤسسية للدولة بمكوّناتها المختلفة التي تمارس عملها تحت إشراف وقيادة حوثية تعمل بمثابة حكومة ظِل داخل المؤسسات الرسمية والمجتمعية؛ غير أن أخطر ما تواجهه الحركة افتقادها إلى الرؤية الاستراتيجية الواضحة لكيفية إدارتها للدولة التي لا يمكن أن تُدار بالقوّة والتسلّط وفرض المشيئات غير المنطقية وغير المتفقة مع القوانين والأنظمة والقواعد العامة لمبادئ إدارة الدول وأجهزتها المختلفة, بالإضافة إلى التصرّفات المتشنّجة والاستفزازية التي يمارسها بعض عناصر «أنصارالله» الذين يتدخّلون في قضايا الناس وفرض أنفسهم كسُلطة قضائية وسُلطة ضبط في آن؛ الأمر الذي أثار استياءً واسعاً في أوساط الناس وأسهم في انحسار التأييد الشعبي الذي حظيت به منذ بداية تواجدها في العاصمة, إلى جانب عدم استعدادها لتقبُّل الملاحظات وإصلاح الأخطاء التي تُمارس باسمها..!!.
تُقابل سُلطة الشرعية الثورية سُلطة الشرعية الدستورية المستمدّة من الانتخابات ومن المبادرة الخليجية ودستور الجمهورية اليمنية إلى جانب القرارات الدولية ذات الصّلة بالأزمة اليمنية وبالتسوية السياسية, وهذه الشرعية برغم ما تحظى به من تأييد إقليمي وعربي ودولي؛ إلا أنها افتقدت ولاتزال تفتقد إلى القوى المؤسسية والعسكرية والأمنية اللازمة والكفيلة بحمايتها وتمكينها من بسط نفوذها في واقع سياسي مضطرب وفوضوي؛ الأمر الذي أدّى إلى انحسارها وسقوطها السريع ووضعها تحت الإقامة الجبرية والسيطرة على أهم معاقلها السياسية «دار الرئاسة والقصر الجمهوري».
ولهذا فانتقال الرئيس هادي إلى عدن في مثل هذه الظروف لم يكن أكثر من مجرّد تأكيد على شرعيته وليجعل منها في الوقت ذاته محور ارتكاز تلتف حوله القوى المؤيّدة لتواجده في عدن حاضنة الأحرار ومأوى الحركة الوطنية اليمنية والتي ستظلّ الحضن الدافئ لكل اليمنيين, وستكون عصيّة كعادتها على من يريد أن يجعل منها منطلقاً لنزعاتهم الانفصالية أو تحويلها إلى عاصمة سياسية بديلة لليمن لانعدام المصوغ الدستوري لذلك، إلى جانب أن واقعها المضطرب وأمنها المستباح من قبل جهات وأطراف داخلية وخارجية عدّة ومليشيات مسلّحة مختلفة ومتعدّدة ولاءاتها وأهدافها؛ جعلها تحت قبضة اللجان الشعبية التي تم جلبها من خارج عدن بينما القوات العسكرية والأمنية مغيّبة عن المشهد أو يُراد لها أن تكون دون دور؛ لأنها محل شك في ولاءاتها؛ الأمر الذي أدّى إلى إجراء فرز مناطقي يُعتبر طعنة قاتلة في خاصرة الوحدة اليمنية القائمة على أساس متين من قوّة الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي للشعب اليمني الواحد.
الأخطر من ذلك أن السُلطة الرئاسية في عدن تعيش حالة قلق دائم نتيجة حالة الشكوك وعدم الثقة في الآخرين, والخوف من تصاعد أعمال الإرهاب, ورهانها على المليشيات الخاصة التي تتم صناعتها وتفريخها وإعدادها من منطلق مناطقي جهوي بعيداً عن الأجندات الوطنية؛ وهو ما يسهم في تفاقم الأزمة السياسية وزيادة تعقيداتها.
ali_alshater@yahoo.com