ليس مستغرباً أن يتداعى الناس في حضرموت تلبية لدعوة حلف قبائل المحافظة للمشاركة في الهبّة الشعبية التي ضُرب موعدها أمس الجمعة 20 ديسمبر، وبغض النظر عمّا يُتداول من وجهات نظر حول دوافع وأهداف تلك الهبّة، عندما تتوافر أسباب تذمُّر الناس وسخطهم، ويغيب الضامن لحقوقهم، وتُضعضع الثقة بينهم وبين دولتهم؛ فإن دوافع أية ردة فعل شعبية تكون نتيجة طبيعية وامتداداً لذلك الفراغ الذي خلّفه غياب الدولة.
بعد مقتل الشيخ سعد بن حبريش واثنين من مرافقيه في اشتباكات مع جنود يخدمون في نقطة تفتيش بمدينة سيئون، وقُتل في تلك الاشتباكات جنود أيضاً؛ غابت الدولة التي يُفترض بها الحضور المكثّف والعاجل في مثل هكذا حوادث غير متوقّعة للتحقيق في ملابساتها بشفافية، واتخاذ الإجراءات ضماناً لإعمال الحق واحتواء أي تداعيات.
في ظل وضع محتقن في طول البلاد وعرضها، وخطر داهم لـ«القاعدة» والجماعات المسلّحة الأخرى؛ أخذت القضية تتفاقم وتستدعي الهوية لترفع منسوب الاحتقان، واستمرت الدولة في ذات الاسترخاء غير المحسوب، ليصل الأمر ذروته بإعلان حلف قبائل حضرموت عن هبّته الشعبية، لتضيف على البلاد أجواء إضافية من التوتر السياسي والاجتماعي والأمني، رافعة حزمة مطالب تجاوزت بعضها سقف المتاح.
وجدت أطراف أخرى في الهبّة الحضرمية فرصة تدعم مشاريعها، وزادت تلك الأطراف الانتهازية وآلتها الإعلامية من شحن الأجواء المفخّخة، وتواترت تحذيرات لمواطني المحافظات الشمالية من استهدافهم يوم الهبّة الشعبية، وثمّة من باشر فعلاً اعتداءاته على مصالح البسطاء منهم دونما مراعاة لدين أو أخلاق أو قيم إنسانية، وأخرى، أياً كانت، عملت في اتجاه زيادة احتقان الطرف الآخر عبر قطع خدمة الاتصالات والانترنت عن المحافظات الجنوبية، وهو ما عزته وزارة الاتصالات إلى اعتداءات تخريبية معتادة على كابلات الألياف الضوئية قطعت الخدمة عن محافظات جنوبية وأخرى شمالية.
ودائماً ما يكون لغياب فعالية أجهزة الدولة وضعف قدرتها وبُطئها في احتواء الأوضاع الطارئة كلفة كبيرة، وبقدر ما تدفع المعنيين بتلك القضايا لرفع سقف مطالبهم، إلى حدٍ غير معقول، في ظل التهديدات الأمنية الخطرة التي تستهدف البلاد، شمالاً وجنوباً، فإنها تترك مجالاً واسعاً للأطراف الانتهازية في تأجيج الصراع، ورفع منسوب الاحتقان، وتدعيم حظوظ مشاريعها الصغيرة الأنانية، على حساب المشروع الوطني، في مرحلة حرجة وفاصلة من تاريخ البلاد، قد يؤدّي انحراف مسارها إلى مآلات كارثية على البلاد برمّتها، ولن يكون هناك طرف رابح في تلك المعركة مهما سعى إلى إشعالها ورأى مصلحته في ذلك.
لكن أصوات العقل والحكمة مهما بدت متأخرة؛ لكنها حضرت رسمياً وسياسياً واجتماعياً؛ إذ تعالت الأصوات من مختلف الأطراف بما فيها تلك التي دعت إلى الهبّة لإعمال صوت الحق والحكمة، وتجنُّب الاستفزازات وأعمال العنف، وأعلنت الدولة استعدادها لتلبية مطالب حلف قبائل حضرموت، وهي مبادرة وإن تأخرت، لكنها يمكن اعتبارها أساساً يمكن البناء عليه لاحتواء جاد للأزمة الطارئة.
ومن أجمل ما قرأت من الآراء والمواقف؛ يمكن أن أختم به ما سطّره القاضي فهيم عبدالله الحضرمي؛ إذ كتب في صفحته على «الفيسبوك» أنه يؤمن أن من خرجوا إلى الشارع هم أناس بسطاء القلب، غايتهم العيش بسلام، مبدياً خشيته من استغلال الهبّة لأغراض دنيئة من ذوي الأفكار الجهنمية الخطرة الذين يُريدون أن يبنوا لهم عرشاً في هذا البلد ليلبس هو تاج المشيخة رغم فساده، أو من قبل مندسّين لزرع الفتنة العرقية المقيتة، وكذلك ذوي المصالح المادية.
القاضي فهيم الحضرمي دعا الرئيس وقادة الأحزاب وأعضاء الحوار إلى الاصطفاف الوطني ومناقشة الأوضاع الراهنة، ورفع الظلم عن المواطنين، ومحاسبة المتسبّبين في كل الجرائم التي استدعت مثل تلك التداعيات، مقدّماً أربعة حلول، أعلن رفضه اثنين منها جملة وتفصيلاً، وهما الاقتتال العرقي والطائفي، والتقسيم شمال الشمال وجنوب الجنوب، وثالثهما الحوار لحل الخلافات والمحافظة على النسيج الوطني بكل مكوّناته، أو الذهاب إلى انتخابات مبكّرة مع تشكيل حكومة تصريف أعمال برئاسة الرئيس التوافقي إلى أن تظهر نتائج الانتخابات.
وختم الحضرمي منشوره بنداء وطني كبير إذ قال: «الباب مفتوح للسلام للشرفاء من أبناء الوطن، ومن حق المواطنين أن تستقر أفئدتهم من ويلات الموت والشتات بين المقابر وضيق الحال، يكفينا تسلُّق على حساب دم المواطن، ومن يقل أنا وطني ومن ثم يزرع الفتنة ليفتت الوطن فهو من وجهة نظري كاذب، وعلى البسطاء أن يدركوا حقيقة واحدة هي أننا كلنا في وطن واحد، جمعنا هذا الوطن وفرّقتنا السلطة والمال.. أنت من هنا، وأمك من هناك، وأختك متزوجة من هناك، علينا أن نحافظ على الوطن».