لا أدري لماذا ألحّتْ على ذهني خلال الأيام الماضية رواية محمد عبدالولي “ صنعاء مدينة مفتوحة” كلما سُئلت في القنوات أو الصحف عن مستقبل اليمن بعد الحوار ، كلما ألحت الرواية على ذهني وعلى ذاكرتي.
ساعدتني الرواية على الفهم، فقد أباح الإمام أحمد صنعاء للقبائل ينهبون ويحرقون.. كان النهب وسيلة العيش الوحيدة للقبيلي، وكان ذلك ما توارثته الأجيال التي أعتقدت أن حق الآخر مباح نهبه بالقوة.
ولست بحاجة للقول إن ما سمي بالهبة الحضرمية يمارس نفس الدور، فالقبائل قد تداعت إلى حضرموت وهي تستهدف بدرجة أولى العناصر المدنية من أبناء المحافظات الشمالية الذين قبلوا على أنفسهم العمل وتحمل المشاق وتقديم الخدمات لأناس قضى النظام السابق في الجنوب على فضيلة العمل وعلى ما تبقى من القيم الإنسانية والدينية لدى هؤلاء وحولهم إلى عاطلين يكرهون العمل بعدما كانوا يقدمون نموذجاً مشرفاً لتقديس العمل وتقديس المهن.
والغريب أن الذين قرأنا عنهم أنهم نشروا الإسلام في بقاع كثيرة من المعمورة بالقدوة والكلمة الطيبة نجدهم اليوم يسارعون إلى طرد أشقائهم من أبناء المحافظات الشمالية، بل دعوا في بيانهم إلى التعامل مع الأجانب بوصفهم ضيوف والتعامل مع إخوانهم وأبناء جلدتهم على أنهم محتلون. تبدأ المفارقة هنا كيف أن الشمال احتضن الحضارمة بشكل خاص والجنوبيين بشكل عام دون تمييز وفضل أو منّة، وكيف قبلت كثير من البلدان الحضارمة وأصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في هذه البلدان وهم اليوم يجأرون بالحقد والكراهية ضد مواطنين لا ذنب لهم سوى أنهم يقدمون خدمات ويمارسون أعمالاً فيها من المشقة يرفض الحضرمي أن يقوم بها.
السؤال هنا: هل هؤلاء الذين يقومون بذلك هم أبناء أولئك الحضارمة الذين نشروا الإسلام في جزء كبير من المعمورة بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة؟
كنت أتمنى من الحضارمة أن يمتلكوا الشجاعة في تغيير مسار الإخفاق، وطريقة العيش ونظام الحياة، كنت أتمنى في خضم المحاولة أن تكون لدى مثقفي حضرموت وحكمائها الشجاعة لكي يكشفوا تاريخ المحافظة البائس في الفترات الماضية وخاصة فترة ما قبل الوحدة.
وإذا أردنا أن نتحدث عن أزمة حضرموت بشكل خاص واليمن بشكل عام يمكن القول إن تلك الأزمة تعود إلى ثلاثة عناصر رئيسية كانت السبب في كل مشاكل اليمن واليمنيين هي:
1ـ ملكية الأرض التي حرم منها غالبية الشعب اليمني طوال تاريخ يزيد عن مئات السنين.. فقد ظلت الأرض ملكية للدولة وإذا استعمل عليها المواطن فهو يدفع ريعها بشكل ضرائب وزكاة للدولة.. وقد تشكلت طبقة من الأعيان بسبب هذه الملكية في الشمال وصودرت بشكل كامل في الجنوب في مطلع السبعينيات من القرن العشرين. ومع مجيء الوحدة والانفتاح على السوق المفتوحة والرأسمالية إلا أن مجموع الشعب اليمني لم يملك أكثر من 10 % من أرض اليمن، وتملك الدولة باقي الأرض، وبسبب غياب الملكية للأرض نتج عن ذلك أزمة في المواطنة وظلت المواطنة مفهوماً غامضاً، لأنه لم يتم ترجمته إلى ملكية للأرض يملكها اليمنيون.
2ـ اليمن بلد يفتقر إلى المياه وبنفس الوقت يعد بلداً بحرياً من الطراز الأول، وعلى هذا الأساس يمكن إقامة مدن حضرية وصناعية على امتداد الشواطئ البحرية.
3ـ سيصبح عدد سكان اليمن عام 2020م أي بعد سبع سنوات أربعين مليون نسمة ولا يعقل أن تظل الديمقراطية غائبة والاستبداد هو الحاضر، سواء كان الاستبداد على يد الحاكم أو شيخ القبيلة أو رئيس الحزب.
مما سبق كان يفترض بالقوى السياسية في اليمن أن تفكر بطريقة جديدة لكي نكون اليمن بلداً جديداً ولا يحدث فيها اخفاق مرة أخرى.. وبالتالي يتفق الجميع على نظام لا مركزي يكفل توزيع فائض القوة عن طريق الديمقراطية وتوزيع فائض الثروة عن طريق العدالة الاجتماعية والكفاءة في إدارة الموارد.
نحن اليوم أمام مشهد يعطي دلالة واضحة، كأنه لا حقيقة لثورة سبتمبر وأكتوبر ولا وحدة نمت في 22مايو 90 ولا حكم تغير، كل شيء عاد إلى ما كان عليه.. اليوم هناك أزمة ومأزق يعيشه الجميع في مواجهة الهوية الوطنية.. لقد تحولت الهوية عند البعض إلى شريعه وعند البعض الآخر إلى قبيلة أو منطقة واختلطت الهوية بالعنف والمناطقية، وبدلاً من خط طريق نحو الديمقراطية يجري تمهيد الطريق للحرب الأهلية.
وقد جاء في كتاب رياح الجنوب لرياض الريس
اليمن والانفصال: الأمان الكاذب.. إن اليمن مجرد حجر شطرنج في لعبة جغرافية سياسية، تعير نفسها باستمرار للنظرية التآمرية في السياسة الداخلية والخارجية، بل وكأن اليمن لا يمتلك القدرة أو حتى الرغبة في أن يرفض أو يقبل أن يتحرك ضمن رقعة هذه اللعبة وفق مصلحة هي مصلحته أو وفق إرادة هي فوق إرادته، وكان كل شيء في تاريخ اليمن قد قرره آخرون.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال يعيدنا إلى ما كنا قد بدأناه: هل الحضارمة الذين علموا الإنسانية معنى التسامح وفتحوا بلداناً كثيرة أمام الإسلام، قد رفعوا شعار الكراهية وارتدوا عن ذلك؟
وبدلاً من طرحهم فكرة السيطرة على منابع الثروة وإعادة توزيع ما تملكه جماعات، يمكن أن يشاركوا في تنمية دولة تكون غنية يعيش فيها سكان فقراء.
إذا نمت الهبّة ـ كما يقولون ـ في حضرموت فإن القاعدة ستسيطر على هذه المحافظة وحينها ستسقط فكرة الأقاليم إلى الأبد، فالتاريخ له مكره وله قوانينه التي لم تستطع القوى السياسية المتحاورة في موفنبيك اكتشافها، لأن الأحوال تتغير بسرعة، فمع كل هبة أو دعوة للانفصال.
التيارات عنيفة ويبدو دائماً من المستحيل التحكم فيها، ومن يظن أن الأمر يخصنا فقط، فهو مخطئ فقد ضاعت قصة المنطقة العسكرية في حضرموت وبعدها مستشفى العرضي، كل ذلك يدل على أن ثمة أخطاء جوهرية في نخبنا السياسية وطريقة تفكيرها تغرق في الرمال المتحركة وتأخذ اليمن معها.