إن معطيات ونتائج الفوضى التي عصفت باليمن والحقد والكراهية التي مارسها البعض على مدى سنوات الفوضى؛ قد أنتجت نفراً غير قليل ممن يسمّون أنفسهم «محلّلين سياسيين» في بلادي؛ تفكيرهم يقوم على الحقد الأعمى والأحكام المسبقة، والنقل المشوّه، والعجز عن إدراك المتغيرات، والانشداد إلى الماضي ورفض المستقبل، فأصبحت أفكارهم متكلّسة لا تستجيب لحاجات الناس، لذلك فهم عاجزون عن التقدُّم وعاجزون عن إثارة الأسئلة؛ لأنهم لا يجيدون سوى الإجابات الجاهزة التي تعفيهم من الفشل وارتكاب الأخطاء فيبحثون عن أشخاص يحمّلونهم فشلهم..!!.
ولست بحاجة إلى القول إن مثل هؤلاء مازالوا يطلّون علينا من أكثر من وسيلة إعلامية يسوّقون للمشاهد والمتلقّي حالة من العته وعدم القدرة حتى على التفكير، ونتيجة لذلك فهم يبحثون عن تفسيرات لأسباب عجزهم، ظانين أنهم سيتجاوزن هذا العجز، فيهربون من المشكلة ويضعونها على كاهل الآخرين.
إن العته قد استبد بهؤلاء إلى الدرجة التي جعلتهم يعتقدون أن الباحث عن الدولة وعن النظام والقانون إنما هو متقلّب وغير ثابت على مبدأ، وكأن المبدأ هو العداء للآخر أو التمسُّك بالرأي حتى تصدر منه روائح كريهة أشبه بتلك الرائحة التي تصدر من القمامة المحتفظ بها لفترة طويلة..!!.
إن مثل هؤلاء لا يدركون العالم الذي يعيشون فيه، وليس لديهم القدرة على فهم طبيعة توازنات القوى المتمركزة حولهم، وتكون النتيجة في النهاية حقداً وكراهية على الذين يختلفون معهم.
إننا أمام مصادرة خطيرة للعقل، فقد قال لي أحدهم إنه يفتخر أنه كان من قطّاع الشوارع في 2011م، فهو يفتخر أنه كان سبباً فيما وصلت إليه البلاد والعباد دون أدنى درجة من الإحساس بالمسؤولية تجاه المستقبل، وليس التشبُّث بالماضي الذي جعل من هؤلاء كتلاً من الحقد والكراهية المجانية التي لا تُنتج سوى رفض الآخر لمجرد أنه آخر.
كنّا نتوقّع أن هؤلاء المحلّلين السياسيين وكذلك النشطاء سوف يطرحون على أنفسهم أسئلة مثل: لماذا أخطأنا، وما هي أسباب هذه الانهيارات للأخلاق والقيم والنظام والقانون..؟! لو وضعت مثل هذه الأسئلة فنحن فعلاً نبحث عن الحقيقة وليس عن الخصوصية، حينها سننتصر للمواطنة وسنتجاوز المناطقية. مما لا شك فيه أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالتفكير بالمواطنة يحتاج إلى عقول نقيّة بعيدة عن الإسفاف والحقد والكراهية أو حتى البحث عن إجابات جاهزة أو الهروب من المسؤولية التاريخية.
قالوا في المثل إذا الطائر سار مثل البطّة وأصدر أصواتاً مثل البطّة وسبح في الماء مثل البطّة وأكل مثلما تأكل البطّة؛ فلابد أن يكون “بطّة” فإذا كان هؤلاء قد تعاملوا مع كل الجرائم التي مرّت بها البلاد بعقل بارد، ولم تهتز لهم شعرة حتى عندما قُتل الأطباء في مستشفى العرضي وذُبح الجنود في حضرموت وفُجّر المركز الثقافي في إب وقُتل الجنود أمام كلّية الشرطة وقبلها في ميدان السبعين؛ وهؤلاء المحلّلون لا يكفّون عن الدفاع عن المجرم الحقيقي، محمّلين كل ذلك النظام السابق.
ولا أجانب الحقيقة إذا قلت إن هؤلاء لا يختلفون عن تنظيم «داعش» سواء بايعوا هذا التنظيم أم لم يبايعوه، فالتفكير في النهاية واحد فـ«داعش» تقتل الأجساد، وهؤلاء يقتلون العقول..!!.
أستطيع القول إن الذين رفعوا شعار «إسقاط النظام» في عام 2011م وتحالفوا مع بعضهم بشكل مباشر؛ فقد عملوا جميعاً على تفكيك الدولة وهم أبعد ما يكونون عن الديمقراطية أو التعاطي مع سياسات الحداثة.
لقد رفع هؤلاء جميعاً شعار «اليمن الجديد» لكنهم لم يُبقوا للمواطن سوى الخراب والدمار وضرب مؤسّسات الدولة، البعض دعا إلى مهاجمة المعسكرات عام 2011م لكنه عجز عن ذلك فحقّق هذه الدعوة البعض الآخر.
إنهم وجهان لعملة واحدة، كلّهم رفعوا شعار الثورة، وكلهم زحفوا نحو مؤسّسات الدولة، وكلهم قالوا إنهم يعملون من أجل الشعب، في حين أن قرار الشعب مصادر.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل سيراجع هؤلاء المتحلّلون وليس المحلّلين أنفسهم ويدعون إلى إنجاز عقد اجتماعي لكل اليمنيين، أم ماذا..؟!.