تتواتر أيام الشهر الفضيل عامرة بأجوائها الروحانية وآمادها المعنوية الدلالية الموصولة بمقاصد الصيام والقيام، وفي مثل هذا الشهر من كل عام يتمثّل الناس نواميسه وأسراره بطرائق متباينة، فلكلٍ ما قُدّر له، ولكل مجتهد نصيب.
والحاصل هو أن الكثيرين يتعاملون مع أبعاد الصيام والقيام من خلال تغيير إيقاع الحياة اليومية مع حرص استثنائي على مزاولة منهجية للكسل وإفراط في الاستهلاك، بل يصل البعض إلى حدود التباهي بما ينفقه على موائد يذهب جُل ما فيها إلى مكبّات النفايات.
يحدث هذا في كل العالم الإسلامي، ولا يكاد ينجو بلد من هذه الفرية التي يقرنونها بالصيام، والصيام منها بعيد.
ليس الأصل في الصوم الامتناع الإجرائي عن تناول الطعام والشراب على مدى نهار كامل، أو تغيير شروط العمل والإنتاج؛ والمعنى أن الذي يصوم قابعاً في سرير نومه، متراخياً ومنتظراً لحظة الفرج التي تبدأ مع أطايب الإفطار وتفاصيل ألوانه؛ هذا النوع من الناس لا علاقة له بمقاصد الصيام، والحال فإن الذي يزاول الصوم دونما نظر إلى الآخر البائس الفقير، لا علاقة له أيضاً بمقاصد الصيام.
فريضة الصوم تنطوي على أبعاد ودلالات أشمل بكثير من مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، فالامتناع وسيلة لجواهر ومكنونات أكبر، أولها تطهير الجسم من أدرانه، وثانيها الإحساس بما يعانيه الفقراء المعدمون، وثالثها صلة الرحم، وهنالك سلسلة من المعاني التي تنبجس من دواخل هذه الفريضة الدينية، فإلى أي مدى يتمثّل الصائمون هذه المعاني ويقبضون على جمرة بهائها ومعانيها..؟!.
ينطوي الصيام على ما كان سطّره «البوصيري» قديماً حين قال:
وأكدت زهده فيها ضرورته
إن الضرورة لا تعدو على العصم
فالإقلال ضرورة فيزيائية ونفسية، والإقرار المسبق بأن الملذات الغرائزية تنطوي على سموم مؤكدة هي الطريق إلى النجاة من مهالك الأيام وصروفها، وهذه الأمور بجملتها تنطوي على المفاهيم التي نستلهمها من الصيام، يقول البوصيري أيضاً:
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وتلك لطيفة أخرى من لطائف الإشارات المقرونة بالإقلال والصيام.
Omaraziz105@gmail.com