الناس نوعان؛ نوع يمُّر بك كالطيوف العابرة وكالنسمة المسافرة المُشبَّعة بأريج يفوح عطراً وياسمين، ونوع آخر مُدجّج بأنواع من قرون الاستشعار والنتوءات والأطراف الحادة المدبّبة.
النوع الأول يتحلَّى بطاقة النسيان والصفح والغفران، والنوع الثاني يتنكَّب مشقّة الذاكرة المُترعة بالحسد والغِلِّ والنميمة، النوع الأول ينتمي إلى المؤسسة نشاطاً وعطاءً متجدّداً لا ينضب، والنوع الثاني يُحوّل المؤسسة إلى محل تصريف لمزاجه الخاص.
الراحل فريد المِثال محمد عبدالله العلي كان من النوع الأول الذي مرّ على مُجايليه وعارفيه كما لو أنه سديم من طيوف ملوّنة، ونسمة عابرة تتغشَّاها الحياء والخجل والتواضع، وكانت علاقته بالعمل علاقة عضوية قرينة المثابرة والمتابعة الدقيقة، فقد كان رحمه الله من الذين يخطّطون لأعمالهم بدأب النمل وإصرار الرائين الواثقين من المستقبل، وكان من الذين يناجزون الاستحقاقات مهما بلغت إكراهاتها ومتاعبها؛ بل إنه كان يتحمَّل أثقال العمل المضني، واجداً كل المبرّر لزملائه الأقل دأباً ومثابرة، وعندما تزداد الأمور صعوبة كان يرى الإنسان الناقص في قلب المعادلة، قائلاً بلسان الحال:
كلما أنبت الزمان قناةً ركَّب المرءُ للقناةِ سِنانا
أقول هذا الكلام من واقع معايشة يومية مديدة في دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة، فالراحل محمد عبدالله العلي ظلّ مشتعلاً بخصوبة العطاء إلى حدّ الاحتياط والدأب الصبور إلى حدّ الصبر، حتى ترك الدائرة منصرفاً لأعياء الدهر ونوائبه.
لكن هذا ليس نهاية شهادتي القاصرة المختصرة، فقد كان العلي نموذجاً فريداً للمتأدب في لغته العربية، العاشق للثقافة العالمة، المتواضع في تبيان معرفته، فلم يكن من الذين يهرفون بما لا يعرفون، كعادة أهل زماننا، بل كان من الذين لا يقولون إلا بعض البعض مما يعرفون، ومن القلائل الذي لا يَلْحنون ولا يرطنون في اللغة؛ بل كانت اللغة الفصحى تنساب من بين جوّانياته العاشقة كما لو أنها خوارزميات رياضية مدوْزنة بالصوت والمعنى، وكانت تلك السجيّة الثقافية الرفيعة مقرونة لديه بروح قومية وثَّابة، واعتقاد جازم أن الأُمّة لن تقوم لها قائمة طالما ظلّت منهوبة بثقافة المراعي الصغيرة واستيهامات المصالح الضيّقة.
كان الهمُّ القومي حاضراً في سكناته وخلجاته، وكانت تجربته المسرحية والثقافية في الجغرافيا الثقافية العربية الممتدة مكاناً وزماناً رافعته في نظرته لقادم الأيام.
الأيام الثقافية التي ازدهرت أثناء عمله مديراً لإدارة الثقافة بدائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عكست تلك الجوانب المهمّة في فكر ورؤية العلي.
معه تحدّثتُ كثيراً، ومنه استمعت إلى بعض البعض من مقارباته ورؤاه الخلّاقة، وفي حضرة صفائه الأخلاقي تهاديتُ مع أثير طيفه العابر لتبقى ذكراه العطرة مدداً آخر نستمدُّ منه المعنى ومعنى المعنى.
Omaraziz105@gmail.com