الوحدة، هي الكلمة المقابلة ـ في المفهوم والماصدق كما يقول علماء المنطق ـ لكلمة تمازج، المرادفة لكلمة تماهي، والمعنى العام للمترادفات الثلاث، هو أن يتحد عنصران أو أكثر أو يتمازجان أو يتماهيان مع بعضهما فيصيران شيئاً واحداً لا ثنائية بينهما ولا شراكة ولا تقاسم.. ومن الشواهد على ذلك ما عبّر عنه شعراء التصوف الفلسفي وجسدوه سلوكاً وإيماناً دفع بعضهم حياته ثمناً له، عندما قالوا بوحدة الوجود، أي أن الله سبحانه بقدراته وإبداعاته وخلقه، وهذا العالم الذي يجسد ويحكي هذه العظمة الإلهية شيء واحد، وعندما قالوا بالاتحاد مع الروح الإلهية من خلال ما نفخ الله من روحه في بدن الإنسان،وعبروا عن ذلك بالعديد من المقولات الشعرية والنثرية مثل قول الحسين بن منصور الحلاج وهو يصف الوحدة التي لا ثنائية أو تقاسم أو شراكة فيها:
فإذا أبصرتني، أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
وفي قول الحلاج أيضاً ـ أشهر المتصوفة وأكثرهم تأثيراً ـ وهو يصف وحدة التمازج والتماهي:
مُزجَت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة بالماء الزلال
ليس هناك ثنائية «أنا هو، وهو أنا» وليس هناك شراكة أو تقاسم، بعد أن يتم التمازج ويصعب الفصل أو التمييز بين هذا وذاك، فالوحدة هي الواحدية، هي التماهي في ما كان شيئاً آخر قبل التمازج، الوحدة هي هيئة أو كيان جديد غير السابق، وهي وظيفة جديدة تختلف عن سابقتها، ولتقريب مفهوم ذلك، علينا بالنظر إلى أوتار العود بين أنامل عواد أو عازف بارع، إنها ستة أوتار، ولكنها عند العزف عليها تصبح شيئاً واحداً له وظيفة واحدة، هي المعزوفة التي ترسلها، ويظهر عليها النشاز الذي يؤذي الذوق عند حدوث أي اختلال في وتر من الأوتار التي صارت ذات وظيفة واحدة وإن تعددت أدوارها بين أنامل العازف البارع الماهر، كما هو شأن تنوع وتعدد ما في الكون، ولكنها في الأخير شيء واحد لوظيفة واحدة تديرها وتدبرها إرادة إلهية.
اعتقد أن هذا يكفي للتدليل على أن الوحدة هي واحدية وتمازج يصعب بعده القول بثنائية أو فصل أو شراكة، وأن الوحدة وإن تعددت وتنوعت مكوناتها لها وظيفة واحدة في إطار انسجام متكامل، وإذا ما اختل جزء أو مكون ظهر النشاز المؤذي الذي لابد من تداركه سريعاً وإلا حل الخراب أو المسخ البعيد كل البعد عما كان عليه الحال سابقاً.
نعود ونقول: الوحدة ليست شراكة نفعية ولا تقاسماً مصلحياً، ولا تمييزاً بين طرف وآخر أو مكون وما عداه، هي انسجام لا إجبار أو إكراه، هي توافق لا محاولات توفيق، بين ما هو غير متلائم.
علينا أن نفرق ونميز بين وحدة وتوحد وبين ما يكرس الثنائية أو الثلاثية والتشارك والتقاسم، بين ما ليس واحداً أو متوحداً.
إن الوحدة التي يراد لها أن تقوم على التقاسم ما هي إلاّ تجسيد وتعميق لثنائية لم تتماهَ في واحد.
شيء من الشعر
إن أشتكي سهري فما شوقاً لفاتنة أو كحلا
أو قلت وآكبدي فمــا شـــغفــاً بهنـد أو بليـلى
لكنه عشقي لما في القلب نوراً قد تجلى
والخوف من يومٍ، إذا ما حل كان الموت أولى