في غمرة الاهتمام العالمي وتفاعله وردود أفعاله جرّاء مذبحة الاعتداء على الصحيفة الفرنسية الساخرة «شارلي إيبدو» والمركز التجاري اليهودي الذي أودى بحياة سبع عشرة ضحيّة، كانت لي وقفة تأمُّل في الإرهاب وبواعثه وجرائره، وعندما خطرت في بالي تلك المقولة القائلة: “الإرهاب لا دين له” وجدت نفسي أردُّ عليها بالقول: «بل الإرهاب له دين، وقبل أن يكون له دين، له أب وأم ومرضعة أيضاً».
الإرهاب له دين اسمه التطرُّف بكل صوره ـ دينياً، سياسياً، اقتصادياً ـ وهي ديانة لها مذاهبها مثل التوسُّع، العنصرية، التكفير، الكراهية.. والإرهابي سواء كان محسوباً بالانتساب أم البيئة أو الموطن على اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، عندما يستبيح عرضاً أو حقاً أو دماً بغير حق؛ فإنه ولا شك لا ينتمي إلى ملّة من الملل ولا صلة له بتعاليم وأخلاق ورسالة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم، وهو لا يدين إلا بالتطرُّف على إحدى مذاهبه المشار إليها آنفاً.
إذا ما كان الإرهاب له دين، فمن أبوه..؟! أبوه هو ذلك التوجُّه ـ ذو الأيديولوجيا غير الموفقة ـ بأن يقحم الدين في حروب الصراع السياسي الإيديولوجي ومآربه النفعية، أما أمّه فتلك البيئة الحاضنة لمفاهيم خاطئة ومشوّهة للدين بغرض استخدامه واستغلاله لأغراض سيّئة وظالمة. وأما مرضعته فتلك الأموال والتسهيلات والمغالطات المساعدة على تناميه وانتشاره لتحقيق مصلحة هنا، وتوجيه ضربة هناك، والعبث بخارطة جغرافية أو سياسية في منطقة ما.
أعتقد أنه لكثرة الشواهد التي لا تخفى على كل ذي عقل وبصيرة؛ لسنا بحاجة إلى سرد بعض الأدلّة، وتحديداً من هذا الجزء من العالم الذي أسموه «الشرق الأوسط» بعد أن حدّدوا موقعه منهم.
إن وافقتموني على أن الإرهاب له دين؛ هل توافقونني على أن له أباً وأمّاً ومرضعة، وأنه لسوء وتلوّث الصلب الذي تنحدر منه، وعدم طهارة النطفة التي احتضنها رحم خبيث ولرضاعته من ثدي مدنّس في حضن من أحضان البغايا؛ لابد وأن يكون ابناً عاقاً أو كما يقال «عاصي والديه» وأنه كلما نما وكبر، اتسعت ممارساته السيّئة أو ما يمكن اختصاره بالكلمة التركية «بلطجته» حتى في أحق أبويه وحاضنته، وتعالوا نتأمل أو نعتبر؛ إن حادثة فرنسا أو الاعتداء الذي تعرّضت له صحيفة «شارلي إيبدو» التي قُتل من إدارييها ورساميها وحراسها ثمانية أشخاص؛ يستحضر إلى الأذهان وبقوة الاعتداء الذي تعرّضت له قناة «الإخبارية السورية» التي قتل من أفراد طاقمها ستة عشر كادراً، وكيف رأت بعض الدول في ذلكم الاعتداء عملاً ثورياً تحرّرياً..!!.
من المفارقات أن نرى تلك الدول فيما بعد تتصدّر مسيرة الاحتجاج المندّدة بالاعتداء على المجلة الفرنسية وحرية التعبير، وهذا ما يقودنا إلى استرجاع أعمال العنف والإرهاب التي شكت منها أفغانستان والشيشان والعراق وسوريا وليبيا ومصر ولبنان وروسيا وغيرها، وكيف دارت كأسها المرّة لنسمع صراخ تجرُّعها من أميركا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية التي لم ينحصر الأمر عليها؛ بل امتدت مرارة تلك الكأس إلى شبه الجزيرة العربية لتسقي أو تجرّع علقمها السعودية واليمن.
لسنا هنا بحاجة إلى التذكير بكنائس ومعابد تعرّضت لما تعرّضت له مساجد ودور عبادة في فلسطين وسورية والعراق وباكستان والهند وغيرها من اقتحامات وقتل وأعمال اعتداء لم تواجه دولياً بما تتطلّبه محاربة الإرهاب وحماية الحقوق والحريّات من مصداقية وتجرُّد.
الخلاصة.. الإرهاب له دينٌ هو التطرّف المجافي تماماً لسماحة محمد ومحبّة المسيح وأخلاق موسى وحتى تعاليم بوذا وكنفوشيوس، وهذا ما يدعو الجميع إلى التوجُّه الجاد عبر الزعامات الدينية والسياسية والفكرية إلى العمل الصادق ـ المنزّه من الشرور والتوظيف السيئ المتعدّد الأغراض - حتى تتضافر الجهود وتنجح في حماية الإنسانية وصون كل ما جاءت به الأديان من قيم نبيلة تتصدّرها الحيلولة دون ظلم الإنسان للإنسان، فما آل إليه الأمر يحتّم العمل الجماعي من أجل تنقية الأديان السماوية من المفاهيم الخاطئة وتوظيفها لما هو سياسي، وتعليم الناس جوهر دينهم وما جاء به من عدل ومحبّة ومكارم أخلاق، وتنزيه الأديان مما يسيئ إليها وإلى رموزها، وما يجعل منها بواعث وجرائر للعنف والتطرُّف أو الإرهاب بكل مذاهبه.
> شيء من الشعر
يا خاتماً، يا رحمة، وصَفيُّ من
أسرى إليك بوحيه «جبريلا»
تمّمت ما أخواك «موسى» و«المسيح»
تسلّماه مكارماً، وحلولا
تالله، نحن الحافظون لديننا
المانعون عن الحياض دخيلا
من ديوان «أيام الوجع» أكتوبر 2009م.
dralhariry@gmail.com