تصادف اليوم ذكرى أحداث الـ13 من يناير 1986م، التي جرت فصولها الدامية في مدينة عدن لتشكل أهم المحطات الكارثية ودورات العنف الغائرة في الجسد اليمني التي ما يزال يدفع ثمنها حتى اليوم، لبشاعة ما أريق فيها من دماء وما تمزق من أشلاء وما خلفته من مآس وآلام طالت أبناء اليمن جميعاً.
وما يهمنا اليوم ونحن نعود بالذاكرة إلى ذلك اليوم المشؤوم، ونستعيد وقائعه الدامية، هو كيف نتعظ من الظروف التي مر بها الوطن خلال حقبة التشطير المشحونة بالصراعات والتصفيات ودورات العنف التي أخذت أكثر من منحى وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية التي عانت من الاحتقان السياسي أكثر من غيرها من محافظات الوطن نتيجة الطابع الحزبي الذي تدثر في كثير من مراحله بالعصبية المناطقية والقروية.
كما أن ما ينبغي أن يفهم أن الهدف من وراء استعراض تلك الأحداث التي سقط فيها أكثر من عشرة آلاف من أبناء اليمن، ليس التشنيع بمن أشعلوا فتيلها ونارها، وما تولد عنها من الكوارث والأحزان بقدر ما نسعى إلى التأكيد على الاستفادة من العبر، وخاصة من قبل الأجيال الجديدة، التي لم تعايش مجريات تلك الحقبة التي ما تزال ذاكرة اليمنيين تنوء بأوجاعها لتقف هذه الأجيال على فداحة ما جرى، وكيف أن الوحدة اليمنية أنقذت اليمن فعلاً من ذلك المنزلق المريع، الذي كاد أن يتحول إلى علة مزمنة لا تنفع معها أية مسكنات أو مهدئات، خاصة وأن هناك من لم يرق لهم حتى اللحظة تجاوز الوطن اليمني لحالة الانفصام والأزمات المتلاحقة التي كادت أن تمحو كل أثر له، وجوداً وحضارة وكينونة، بعد أن أدمن مثل هؤلاء على الدماء، والحماقات إلى درجة أنهم صاروا لا يستطيعون العيش إلاّ في ظل الأزمات والحرائق.
وهو المسلك المخزي الذي اتسمت به كل مواقفهم تجاه الوطن ووحدته التي نشرت ثقافة المحبة والتسامح والإخاء واللحمة الوطنية بدلاً عن ثقافة الأحقاد والكراهية والبغضاء التي حاولوا تكريسها أكثر من مرة، وكان أشدها ضراوة صيف عام 1994م حين سعوا إلى إعادة إنتاج الماضي بالانقلاب على المنجز الوحدوي الذي تحقق في عام 1990م، فتصدى لهم الشعب اليمني وأسقط مخططهم الانفصالي في مستنقع الخزي والعار.
وكان يعتقد أن تلك القطعان العدمية والعبثية ستستفيد من ذلك الدرس وتعمل على تصحيح مواقفها وفكرها المريض، وتتخلص من أوهامها العليلة وتدرك حق الإدراك بأن الوحدة وجدت لتبقى، لأنها بكل ما تحمله من دلالات لم تكن انجازاً عابراً أو تم تحقيقه عن طريق الصدفة، وإنما جاءت استحقاقاً طبيعياً لتضحيات سخية وغالية قدم فيها هذا الشعب من مختلف شرائحه السياسية والحزبية والثقافية والاجتماعية قوافل من الشهداء وأنهراً من الدماء.
ولكن، وكما يقول المثل فإن الطبع غلب التطبع.. فهاهي تلك القطعان المهترئة والمهزوزة لم تتوقف عن مناطحة جبال اليمن الشماء، غير مستوعبة لكل الحقائق بعد أن توقفت ذاكراتها عند ماضيها الأسود ومنابته الشمولية ومنابعه المناطقية ومفاهيمه الكريهة التي تقوم على الحقد الطبقي وايديولوجية (العنف الثوري) بما تنطوي عليه من تخندق في مربعات التآمر والخيانة.
وها هي أفعال هذه القطعان تدل على ما أصيبوا به من البلاهة حتى أنهم صاروا غير قادرين على استيعاب حقيقة أن الوحدة بلسمت الجراح وأن اللعب بالنار لن يكون إلاّ وبالاً عليهم وأنهم أول من سيتلظى بأي حريق يشعلونه.
ولا ندري كيف لمن استباح كل تلك الدماء في عام 1986م أن يصبح اليوم مدافعاً ومتحدثاً باسم آباء من قتلهم بالأمس، للحفاظ على السلطة؟.
وكيف لمن أحرق الأخضر واليابس وأهلك الحرث والنسل ودمر وخرب أن يتباكى اليوم على ضحاياه، متخذاً من أساليب الثعالب منهجاً كما هو شأن كل الانتهازيين الذين يرفعون شعارات الأحلام الوردية، من أجل إعادة إنتاج كوابيسهم والانقضاض على ضحاياهم.
والغريب في الأمر إمعان هؤلاء في السير عكس التيار والاحتفاء بذكرى الكارثة بدلاً من أخذ العبرة وإصلاح الذات وإعلان التوبة والأوبة والاعتذار لهذا الشعب الذي أنهكوه طوال حقبة التشطير وأوسعوه قتلاً وسحلاً وتنكيلاً، وأوسعوا ما بناه تدميراً.
فهل هم بحاجة إلى من يذكرهم بما قد تناسوه أو تجاهلوه أو ظنوا أن الشعب قد نساه؟. وإذا كانوا فعلاً على ذلك النحو من النسيان فإن الأحرى بهم إعادة قراءة قصيدة شاعر اليمن وأدبيها المرحوم محمد سعيد جرادة المعنونة بـ"المسبعة" والتي اختزل فيها ذلك المشهد الرهيب وهو يرى الجثث مكومة في الشوارع على نحو جعله يستبعد أن يكون مثل ذلك العمل من فعل بني البشر، وأنه أقرب إلى المجازر التي تفضي إليها معارك السباع الحيوانية.
ولو عقل هؤلاء لاستخلصوا ما يفيدهم ويقودهم إلى الرشد والإقلاع عن مواقفهم التي أضرت بالوطن ومصالحه العليا والاعتراف بتلك الخطايا والاعتذار إلى الشعب، ولكنها الغواية والأوهام البليدة التي عشعشت في أذهانهم والهوس المريض الذي لا يعكس سوى الإمعان في الجرم والإصرار على اجترار الماضي واستفزاز من لحق بهم أذى ذلك الماضي وطابعه المأساوي.
ومع كل ذلك عليهم أن يتذكروا أن تمسكهم بقوة العادة تتصادم مع سنة الحياة وحتمية التاريخ وأن استمرارهم في هذا النهج المنحرف لن يسقط حق الجماهير اليمنية عامة وضحاياهم وأهلهم خاصة في المطالبة بالقصاص.
ومن مصلحة هؤلاء أن يتداركوا أمرهم ويتوقفوا عن حماقاتهم، وعن إشعال الحرائق والتشجيع على النهب والتقطع والتحريض على إشعال الفتن بين أبناء الوطن الواحد، والاعتذار للشعب وإبداء ندمهم على ما اقترفوه، وطلب الصفح منه بدلاً من تكرار الأخطاء التي لن يجنوا من ورائها سوى الخيبة والحسرة والفشل الذريع.