عندما نتحدث الآن عن النزعة العلمية المعرفية البرهانية, فإننا نتحدث عن نتاج للفلسفة الأوروبية التي بدأت في القرن الثالث عشر ضمن إطار فك الاشتباك غير الحميد بين الكنيسة في القرون الوسطى وبين الآداب الإنسانية التي سبقت هذه الكنيسة.
الثورة المعرفية التي قدمتها الكنيسة يومها والتي قادها أمثال توما الأكويني، اسبينوزا.. هذه الثورة المعرفية كانت تعني فيما تعني الانخلاع عن اللاهوت الكنسي الذي قيد مساحة التفكير والعقل، وتعني أيضاً إخراج العلم اللاهوتي من عنق الزجاجة إلى فضاء الرحابة الإنسانية، تفاعلاً مع الإسلام وآدابه ورؤاه الكلامية والفلسفية، وأيضاً مع الأغارقة.
ومن يومها نشأت تباشير الحلحلة الأُولى للخصومة بين العلم والدين، إلى أن جاءت لحظة الفكر العقلي البرهاني الذي استبعد الميتافيزيقا استبعاداً إجرائياً وليس إلحادياً كما يتوهم الكثيرون. هذا الاستبعاد الإجرائي كان يعني ببساطة شديدة الاهتمام بالشأن الدنيوي بذاته، التأمل في الطبيعة وقراءة الظواهر وقوانين الوجود الموضوعية بذاتها. تبعاً لذلك كان هذا التقدم المعرفي العلمي البرهاني هائلاً، وخبت الميتافيزيقا وأصبحت روحانيات فلكلورية.
اليوم وصلوا في أوروبا وفي هذا العالم العلمي الكبير إلى منطقة متقدمة في البرهان والعقل بمقابل افتقاد الروحانيات، فالإنسان ليس كائناً فيزيائياً «أبيقورياً» يعيش اللحظة فحسب، بل إن لديه حاجات تتجاوز الضرورات المادية الصرفة.
العواطف ليست مادية.. كذلك المشاعر والحالة الوجدانية، ومفهوم السعادة، والعلاقات الحميمية؛ كل هذه الأمور تدخل في البُعد الآخر للقيم الإنسانية، ولهذا جاز القول بأن السعادة تكمن هنالك في منطقة وسطى بين العقل والمثال «بكسر الميم» ، بين الواقع والخيال ، بين المادة والروح ، فإذا ما كان الإنسان مقيماً في مثابة التناغم بين المستويين حق عليه القول المأثور « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» والمعنى أن العمل من أجل الدنيا رديف السعي والكد والواقعية وامتلاك الأسباب، والعمل من أجل الآخرة رديف الصدق والعطاء وكريم الخصال والتسليم بأن الإنسان ليس مخلوقاً لهذه الحياة الفانية، بل لحياة قادمة أبهى وأعظم .
Omaraziz105@gmail.com