كثيراً ما دار النقاش وتشعّبت الأحاديث حول ما يعانيه الوسط الثقافي الإبداعي من ركود، والسير بنمطية خالية مما يثير ويدهش ويحفّز على المزيد من الإبداع والتميُّز والتنافس الخلّاق، وما يزيد الأمر تعجّباً هو أن الوسط السياسي أيضاً يمر بالحالة نفسها منذ سُمِحَ بالعلنية والتعدّدية السياسية والحزبية.
أما السبب في الحالتين فمردّه - وإن من وجهة نظر شخصية - إلى غياب النقد بمفهومه الإيجابي وليس السلبي، أي النقد الذي يبدي المزايا والمحاسن، كما يشير إلى الهفوات والأخطاء بغرض الاستفادة والتحفيز، والمزيد من الإثراء والتجدد، لا بهدف المجاملة وكيل الثناء أو التجنّي والتحامل.
غاب النقد الإيجابي لتحاشي الناقد تحسّس المنقود وردود فعله التي قد تتحوّل إلى خصومة، وظلت شذرات النقد التي يطل بها أصحابها من وقت إلى آخر محصورة على المجاملة والتحبّب بإبراز ما هو جميل في إبداع هذا المبدع أو ذاك وتحاشي تبصيره بمنطقية وتجرُّد إلى مالم يوفق فيه أو ما يعتبر هفوة أو كبوة، وقد يحدث العكس، إذ يعمد الناقد إلى التعاطي مع النقد بروح الغيرة إن لم نقل بنزعة الانتقام والكراهية، وتجريد المنقود من كل محاسنه وإن أدّى الأمر إلى التجريح والكذب والمغالطات؛ ولهذا لم يتطور الإبداع بالشكل المطلوب من ساحة غنية ومتنوّعة كساحتنا الثقافية.
الإبداع الجيّد، يولّده النقد الجيّد، والثراء والتنوّع والمزيد من الخلق والتطوّر، يولّده التنافس القائم على مواجهة الكلمة للكلمة، والفكرة للفكرة، والمجيء بالأفضل والأكثر ثراءً وإبداعاً ومعرفة، ولهذا قِيل: إذا مات أحد المتنافسين في أي مجال كان؛ فقد مات الاثنان معاً، كون من ظل على قيد الحياة لم يخلُ له الجو كما يقال، بل فقد ما كان يحفّزه على الإبداع والسعي نحو التميُّز، والقبول بالتحدّي الإيجابي.
إن ما ينطبق على المجال الثقافي الإبداعي ينطبق على المجال السياسي في مجتمعنا، فهناك العديد من الأحزاب والتيارات والجماعات ذات الرؤى والأيديولوجيات والأفكار والتوجهات؛ لكن السائد هو الركود داخل تلكم القوى السياسية التي لم تتطوّر، خاصة العتيقة منها، فلقد غاب عنها النقد الإيجابي المحفّز المُقَوِّم للاعوجاج الباعث على التنافس الخلّاق، وليس هناك سوى التجاهل أو تحاشي الاحتكاك أو تغليب المجاملة، وهذا ما جعل الخطاب الفكري والعمل السياسي لتلك الأحزاب "هو هو" إن لم يزد سلبية وأخطاءً حالت بينه وبين استيعاب العصر ومستجداته المتلاحقة والقدرات الذهنية والمعرفية لجيل الشباب تحديداً والشارع عموماً.
هكذا ظل الحال، إلى أن انبعثت إشارة من وسط الصراع الذي نشب مؤخراً بين جماعة الحوثي «أنصار الله» وبين حزب الإصلاح «الإخوان المسلمين» وكانت صحيفة “الشارع” من خلال رئيسها الزميل نايف حسّان هي التي أطلقت تلك الإشارة وفتحت صفحاتها لإعلان البشارة بحركة نقدية واعدة بتحريك ركود الوسط السياسي بأقلام النقّاد الشباب الذين بشّرتنا أقلامهم وهي تتناول تيارين سياسيين بالنقد والتحليل والمقاربات والإيضاحات، بما يَعِد بحركة نقدية موضوعية منهجية لأيديولوجيات وأفكار وممارسات وبرامج لأحزاب وتيارات لها أثرها وممارساتها على الساحة اليمنية.
باب كان مغلقاً تم فتحه، فهل فتحه الزميل نايف حسّان بما كتبه عن الحركة الحوثية، وما أثاره من كتابات بأقلام بعض الزملاء كـ«علي البخيتي وصلاح الدكاك وأنس القاضي ومحمد المقالح وأبوبكر عبدالله» وغيرهم..؟!.
أمْ أن الباب المغلق قد فُتِحَ بتأثير حركة الحوثي أو تيار «أنصار الله» وما تحرزه من انتشار متتالٍ بعد أن كانت محصورة على أجزاء من شمال الشمال، وكيف رافقتها كتابات نقدية وتحليلات للزملاء محمد عايش والدكتور حسن مجلّي، وأحمد الحبيشي، وفكري قاسم، ومحمود ياسين، وعبدالناصر المملوح، وصادق القاضي.... إلخ.
ما يهم هو أننا صرنا أمام ساحة من النقاش والمُجَادَلَةْ والتحليل الفكري السياسي، وهذا ما نشكر تلك الأقلام عليه، وسندين لها ولما يشهده الواقع المعاش من متغيرات فتحت باب السجال والجدل والنقد وما يقود إلى تناول كل الرؤى والأيديولوجيات والعملية السياسية برمتها، وإنَّا لعلى ثقة أن الاختلاف القائم على رفض الإرهاب الفكري والقمع والعنف والتقطُّعات والانتقاص، والاعتماد على مواجهة الكلمة بالكلمة، وتفنيد الحُجّة بالحُجّة، هو الاختلاف الذي يُقَوِّمُ الاعوجاجات، ويثري التنوُّع، دون أن يُفسد للود قضية، أو يرتهن إلى العاطفة وفقاً لمقولة أرسطو العظيم: «أفلاطون صديق، والحق صديق، ولكن الحق أصدق».
نحن بحاجة إلى التحاور عبر صفحات المطبوعات، لا عبر نقاط التقطُّع في الطرقات، حوار بالكلمة لا بالرصاصة، بالحُجّة المقنعة لا بالأحزمة الناسفة، وأن نُقَيِّمَ ما يعتمل في الساحة بتجرد الفلاسفة الباحثين عن الحقيقة، متمثّلين مقولة أرسطو المشار إليها، وأن الحق الذي نضعه فوق عواطفنا هو المجتمع المدني في دولة مدنية حديثة، جاعلين الواقع المعاش، وليس مغالطات الأوهام مرجعيتنا الأولى.
شكراً لمن فتح باب الجدل والنقاش الفكري السياسي الذي ظل بابه مغلقاً، وعقبى لما تتطلّع إليه ساحتنا الثقافية.
شيء من الشعر:
التَعِزِّيُ قال: «بَلاَ زنقلةْ»
حضرميٌ يقول: «كفى هرجلةْ»
عدنيٌ يقول: «بَلاَ حَنْجلةْ»
الذماري قال: «على غيرنا»
***
«العبوا غيرها» قبل أن يُسدل المخرجون الستار
على المرحلة