يوم كان الشعر هو ديوان العرب، أورثنا الكثير من النصح، والحكمة والتحذير.. أهمها التحذير من الاقتتال والقتل، كما عَمد على وصف الحرب عموماً وتصوير مآسيها وويلاتها وتبعاتها أو ذيولها الخبيثة.
كل ذلك بهدف الحرص على اتعاظ كل ذي قلب يعقل به، وتحذير كل طائشٍ غلبت عليه حماقته، والإبقاء على الذكرى التي تنفع، حاضرة أمام الأجيال القادمة، وإن تبدّل الزمن وتغير الناس، وحلّت الكثير من المستجدات والتحولات، وللدلالة على ذلك نختّار شاهداً متداولاً في ألسنة الناس، لبساطته وشاعريته، وهو البيت القائل:
كُتَبِ القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرّ الذِيَولِ
وفي هذا البيت الحكمة، نجد التحذير الذي استوعب واقعنا اليوم، كما استوعب ماضينا، وذلك في نقطتين أولهما: البواعث والعوامل التي تكتب أو تفرض الحرب على الناس، وثانيهما: ذيول الحرب التي لم يعد جرّ ذيولها أو تبعاتها، محصوراً على فئة معينة، بل صار على الجميع أن يشقى بها.
لنبدأ بالنقطة الأولى المتمثلة في بواعث الحروب الأهلية أو القتل والقتال..
لنرى الحال وقد تغيّر، ولم تعد محصورة على قضية ثأر أو نزاع بين قبيلتين أو فخذين داخل القبيلة والعشيرة ـ كما كان قديماً ـ ولكنها تنوعت وتشعبت في صور مختلفة، كالمخططات والأنشطة الاستخبارية الخارجية أو إثارة صدام عنف باسم الدين أو التجديد والفوضى الخلاقة، وكتضخم نزعة الهيمنة والنفوذ، وتنوع المصالح النفعية وتكوين الثروات الهائلة وروح التسلط وعدم القبول بالآخر، والاستقواء بقوة الدولة أو النفوذ غير الملجم والصراع على السلطة بكل دوافعه وأشكاله.
وكما حدث التنوع والتعدد في بواعث وعوامل القتل والقتال للحروب الأهلية، تنوعت وتعددت مثلها تبعات ونتائج تلك الحروب، وهي الذيول التي لم يعد أمر جرها أو الشقاء بها محصوراً على أمٍّ ثكلى وامرأة أرملة وأطفال يتامى أو على بيت فقد العائل والحامي، حيث تعددت وتشعبت هي الأخرى، وصار على الجميع أن يجرها ويشقى بها، ابتداء بالدولة وهي تعالج مخلفات الحرب أو تقوم بما يسمى جبر الضرر، مروراً بأطراف الصراع أو القتل والاقتتال جراء ما لحق بها من دمار وخراب ودماء وإعاقات وفقدان لمن هم في سن العطاء والإنتاج، وانتهاء بالبنية الاجتماعية وما تعلق بها من حزازات وثارات وضغائن ورغبات انتقام، وإلى آخر ما تخلفه حرب أهلية من رواسب تتوارثها الأجيال خاصة في المجتمعات ذات الصبغة القبلية والبدوية، أضف إلى ذلك تلك المحبطات والمعيقات التي يجر ذيولها الاقتصاد والأمن والتنمية...إلخ.
خلاصة المراد أن نتقي الله في أنفسنا وأهلنا وبلدنا وأجياله القادمة، بإطفاء حرائق حروب لا يستهان بذيولها المتعددة المتشعبة، كون الحروب الأهلية غير حروب مواجهة عدو خارجي، أو مرتزق دخيل، حيث تنحصر الآثار على ماهو مادي، وقد تزيد عود المجتمع قوة وصلابة.
إن القتل والاقتتال في الحروب الداخلية شيء مختلف تماماً قد لا يدرك البعض فداحة مآسيها وكوارثها، إذا ما عُصبت عيونهم بظلام نزعاتهم المجافية للإنسانية وغطت قلوبهم جهالتهم وأحقادهم وشهوات المال والسلطة.
لنتقِ الله في أنفسنا ووطننا، وهذا لا يتحقق إلا بالحيلولة بين نيران صدامات العنف والدمار النافخين فيها وبين المجتمع، وأن نقبل بالآخر، والاحتكام إلى العقل وصناديق الاختيار، لا إلى العاطفة وممارسات القهر، ولن يتحقق ذلك أيضاً إلاّ بدخول العصر بمفاهيمه، لا مفاهيم الرواسب المتخلفة ونوازع الاقصاء، ولن يتحقق إلا بالسمو على نزعات وجنون شهوات المال والسلطة ووهم امتلاك كل الحقيقة.
ألا يكفي ما مررنا به ـ ونمر ـ من قتل وقتال، وهل آن الأوان ليدرك الجميع أن معالجة آثار تلك الذيول لن تتم إلاّ بفهم الواقع المعاش وحتميات مستجداته، ومشاركة الجميع في النهوض بالواقع، وبناء يمن الجميع، بنوايا صادقة وقلوب غُسلت من أحقادها، ونفوس تطهرت من شوائبها ومن العبودية لشهوتي المال والسلطة.
شيء من الشعر
من بعد أن جعلوا التقاتل منهجاً وعلى الغواني أن تجر ذيولاً *
شهواتهم في مغنم أو سلطة لا تعرف التحريم والتحليلا
ولأجلها جعلوا النذور - تقربا ً- أشلاء من نزلوا بهم تنكيلا
*إشارة إلى بيت الشاعر العربي المستشهد به.