عمل النظام السابق طوال عقود على استلاب الثقافي وإفراغه من مضامينه تدجيناً للفكر الحر في المجتمع اليمني، ومن أجل أن يكون جزءاً أساسياً يدور في فلك السياسة الرسمية الممجّدة لمواقف القائد الضرورة والرمز الوطني الأوحد، فضلاً عن تعزيز وخدمة كل الرطانات الشمولية التي استهواها ما قبل الوحدة وما بعد حرب صيف 94م.
كان لذلك النظام أثره الحاد على الفكر والحركة الشعرية؛ إذ قام بتخريب الذائقة والحس، وبالمقابل أسهم في ازدهار الشعر الرديء الذي لا يجترح الشغف، إضافة إلى الوعي السطحي الذي لا يحترم قيمة المغايرة الفكرية.
وبالرغم من ذلك استمرّت الحركة الثقافية والشعرية اليمنية تثير بجدية لافتة عديد إشكاليات ومعارك فكرية ونصية أسهمت في خدش الوعي المنكفئ على تقليديته لتفتح ثغرة للضوء.
فيما يبدو من الطبيعي أنه بمجرد سقوط النظام؛ أول من يسقط معه الثقافة التي كانت تغذّيه ويغذّي بها المجتمع؛ إلا أن ثقافة الاستبداد لاتزال ملمحاً مستمراً في الدولة اليمنية، فلقد تخلّى صالح عن الحكم، غير أنه المؤثر الأبرز في كل مجرياته بحكم نفوذه القيمي المهيمن، فعلى مدى 34 عاماً أعاق نظامه ثقافة المناقدة والديمقراطية، ومثلها أدب الاختلاف والتعدد.
وفي البدايات الأولى لمرحلة الوحدة، ما بعد 22 مايو 1990م انتعش الفعل السياسي بموازة الفعل الثقافي والاجتماعي، والسبب الأساس: فضاء الحيوية الذي ازدهر حينها بحكم خصوصية المرحلة، وتلاقح نظامي الشمال والجنوب، كما بشكل خاص، تأثير الأخير جزئياً على الفضاء العام، الأمر الذي انعكس على المخيلة والإبداع عموماً، فضلاً عن الشراكة في إدارة الدولة والتجانس الموضوعي لمجتمعي الشمال والجنوب في هوية وطنية واحدة.
لكن هذا المسعى لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما تفجّرت حرب صيف 94م ذات التداعيات الخطيرة على التنوُّع واحترام المختلف، وصولاً إلى فرض المنتصر لنمطه الأحادي الذي كان قبل الوحدة ليطغى على الدولة والمجتمع والمنتج المعرفي والجمالي أيضاً.
والشاهد أن الشمولية كانت تنعكس على المجتمع اليمني خلال مرحلة ما قبل الوحدة، ثم بعد حرب 94م، انعكس الانحطاط السياسي للسلطة على كافة الممارسات، بحيث ظل نظام صالح يحتقر وبشدة النُخب الثقافية، والمتمردين الشعريين ، ومثلهما في السياق كل الممارسات السياسية المعقلنة ذات الأبعاد التقدمية والتحرّرية.
أما اتحاد الأدباء والكتّاب الذي كان قلعة مدنية رائدة منذ تأسس موحّداً من قبل مثقفي الشمال والجنوب العام 70م نجح النظام في خلخلته من الداخل، فلقد كان الاتحاد يعرّي السلطة فيما مضى، وهو الذي كان حاملاً لمساعي الضمير الثقافي اليمني إلى الواجهة، قبل أن يرضخ لمداهنة النظام أو يتواطئ مع ممارساته التضليلية المخرّبة للحس الثقافي السليم.
فالنظام بعد رحيل أهم مؤسّسي الاتحاد الرواد انتهزها فرصة لاحتوائه، تارة عبر شراء الذمم والمواقف، وتارة من خلال الترهيب وإفراغه من مضمونه عبر تسييس قيادته من قبل الحزب الحاكم الذي يتزعمه صالح.
والحق أن الفكر المستقبلي الذي تأسّس عليه الاتحاد متحيّزاً إلى الحرية والمواطنة والوحدة؛ تراجع جدّاً خلال العقد الأخير بالذات، ثم رويداً رويداً تنصّل عن الاستقلالية الثقافية التي كانت تحكم علاقته بالنظام، كما غضّ الطرف في عديد محطات مهمّة عن سوءة هذا النظام البارع في وأد المثقّف النقدي والعصري والأخلاقي والمسؤول.
يجمع عديد أدباء على أن الاتحاد منذ فترة طويلة وهو خاضع لإملاءات تحرفه عن وعي الثقافة الحرة.
صحيح أننا مازلنا نعوّل بالرئاسة الجديدة للاتحاد على إحداث نقلة مبشرة بعد ما آلت إلى الشاعر والمثقف النوعي والعضوي القدير مبارك سالمين، إلا أن الروح المؤسّسية في الاتحاد كانت تتآكل منذ ما قبل تسنّمه المسؤولية بسنوات، فيما جاء على إرث مكدّس على عديد مستويات كما يبدو واضحاً.
وعلى مدى قرابة عشرين عاماً أسهبت الهوجة السلطوية في تمجيد الحالة القبلية الأمنية الجامحة، إضافة إلى منح الأصولية الدينية حق الرقابة على المجتمع وتدجينه حتى قادت بذات المسعى المشين إلى تعميد الأبطال الحاكمين بالقداسة وإحكام السيطرة على المخيال الثقافي النهضوي؛ ثم مع تفشّي الخصام السلطوي للثقافة الخلاقة والأدب الحديث والفن الراقي؛ انتشر النمط الفكري والأدبي والفني الهابط الذي تتعثّر معه ممكنات التغيير المنشود.
غاب المسرح واضمحلت دور السينما، واندثرت صناعة الكتاب القيّم، كما تمّت السيطرة الأمنية على الجامعات، واعتبرت حصص الموسيقى والرسم في المدارس مجرد فتنة وأخطاء يجب تجنُّبها لصنع الصواب الديني والفضيلة القبلية.
غير أن استشراس استبدادية حالة الخواء الجوفاء، لم ترضخ عشرات الكتاب والصحافيين والشعراء والرسّامين “من المثقفين العضويين” الذين ظلّوا يحافظون بنضج جمالي وقيمي على مشروعهم في كشف زيف النظام والإبداعات الخادعة والمهادنة والتيئيسية لـ “سدنته” ما جعلهم على رأس الأصوات الخصوصية التي لا تساير الركب، وتستفز القطيع وتثير الأسئلة والأمل والرفض.
قاوم هؤلاء بالقصيدة المتجاوزة والبحث الجاد، وفن التشبث بالحقوق، ومقالات الصحافة الحرة، إضافة إلى فاعلية القول في الندوات التي تهزأ بالعبودية المختارة مكرّسين قيم التضامن وقضية المواطنة وهاجس التطوير وتوق الانعتاق من ربقة السائد حتى أصبحوا عنواناً أصيلاً للمعنى المقاوم للاستلاب، من خلال رج القيم الثقافية الراكدة، ما جعل نضالاتهم مشهودة في رفع سقف التنوير، مقدّمين في الوقت نفسه الكثير من التضحيات، تأكيداً لغاية ثقافتهم الفارقة من أجل رقي الذات الوطنية والدولة الوطنية والثقافة الوطنية.
ومما لا شك فيه أن السلطة المنغلقة تتعصّب في عدم تنمية الشعور الطاغي بالثقافة الجديدة وزخمها التغييري؛ إلا أن المثقف اليمني رغم كل شيء، كان ومازال أكثر من يمتلك القدرة الفريدة على تجديد الوعي، ففي ظل الأوضاع الاستبدادية التي تعلي من أدب التمجيد والتغفيل والفكر الأحادي الفج، كابدت المثل الثقافية اليمنية من مهيمنات النظام التي عملت ضد تحقق الحرية، لتنتج حرية شكلية مخادعة ومفروغة من المعنى.
كل هذه الشروط القاسية وقف ضدها ثلّة من الأدباء والمفكرين والفنانين والأكاديميين المنشقّين، ومعظمهم من الشباب نذروا أحلامهم للتحديث وإعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس تقدّمية عقلانية دون وصاية أو شروط قاهرة أو غرائز طائفية، كما بكثير من الصبر على الأهوال والاتساق المبهر مع الذات، استطاعوا تعرية صنم الدولة وفضح الجهاز القبلي العسكري الطائفي الحاكم.
التركة ثقيلة، ولكن: لو يهتدي السياسي بالثقافي، ستنجو اليمن، ولو قليلاً، فالشباب الذين فجّروا ثورة 11 فبراير هم من المثقفين الجدد.
واليوم يخوض المثقف اليمني معركته مع احتدام الطائفية والثورة المضادة، فحيث تبدو الهوية الوطنية اليمنية ضعيفة ومشتّتة، يبقى لا مجال للمهادنة في تسويغ الممارسات التي تتغذّى بأفكار الكراهيات والانتقامات والامتيازات السلالية وهدم بنية الدولة وتشظّي المجتمع.
فالمثقف في جوهره هو الذي لا يصمت أو يراوغ بسبب الخوف، كما لا يسأم من مجابهته للرجعية، أو يصفّق للميليشيا وبما أن عملية التجميل السياسي لقبح العنف من أسوأ خيانات المثقف في حال ارتكابه الذي لا يغتفر لها؛ نخلص إلى أن الثقافي في اليمن لايزال ضد استباحة الدولة واقتسامها كغنيمة من قبل الأقوياء، على عكس السياسي المتحاصص اليوم، والصائغ لخياراته وفق مقتضيات التسوية ومبرّراتها الآنية مالا يستسيغه الثقافي الغاضب للحق وللعدل؛ إذ يعمل بدأب من أجل التشبث بما تبقّى من الوطنية والدفاع عن المستقبل وتحطيم التابوهات التقليدية، علاوة على أن فعل الكتابة الخلاقة والإبداع والتفكير الحر هو فعل ثورة في الأساس لا فعل سلطة.
ثم إن كفاح المثّقفين السلميين هو حالة حب لا حالة تناحر، حالة مصلحة عامة لا مصلحة خاصة، وبينما يحول السياسي اليمني صراعه مع السلطة إلى صراع طائفي أو غنائمي غالباً، يتموضع الثقافي على يقظته الوطنية التي لا تتجزأ بالرغم مما تحيطه من تجاذبات حادة وأزمات وطنية كبرى، تحشره في زاوية العدو رقم واحد لكل من يعادي الديمقراطية ومحرّكه العميق الغلبة والاستئثار والعنف والاستغلال السياسي للدين، مع إبقائه التخلّف كعقيدة للشعب اليمني، وهيامه بالدولة التسلّطية على اعتبارها قوته التي لا يتنازل عنها.
fathi_nasr@hotmail.com