مسكينة هي الثورة والجمهورية والوحدة، وقد صارت كل واحدة منهن أسهل من الأخرى لمن يريد أن يرتقي مكاناً مرتفعاً ليعلن مزايدته.. ويظهر حرصه، ويوجه سهام النقد العشوائية الطائشة هنا وهناك.
مسكينة الثورة، فليس هناك ما يمنع المزايدة باسمها حتى من قِبل من سرقوها أو جعلوها مما ملكت أيمانهم كامرأة سُبيت من إحدى خيام رَبْعٍ تم اجتياحه بغزوة في ليلة ظلماء.
مسكينة الجمهورية، ليس هناك ذرة من خجل تحول بينها وبين من يهذي بحرصه وخوفه عليها حتى وإن كان ممن ينتمون إلى من عملوا على مسخها وتحويلها إلى ما أسماه البعض بـ(الجيوملكية) أو حكموا عليها بالنفي إلى المكان المسمّى بالمنزلة بين المنزلتين، فلا كانت بالجمهورية ولا بالملكية، المهم لقد أفرغوها من محتواها، كما فعلوا بالثورة تماماً.
ومسكينة هي الوحدة وقد بلغ الحال أن يتباكى عليها ويرفع عقيرته نادباً حظها العاثر من دس السم البطيء ليس في طبق عشائها الأخير، بل في صحن فَطوُرِها الأول، لتبدأ العلل بإصابة خلايا النسيج الاجتماعي حتى تتمكن من خلايا الوحدة الوطنية والسياسية.
مسكينة هي الثورة والجمهورية والوحدة، ثلاثتهن يستحقن الشفقة من تلك المزايدات والحرص والمخاوف والتباكي، من أولئك الممسكين بأقواس ترشقها بسهام النفعية والأنانية المصنوعة من فولاذ الجهل الجاهلي، بحُجة التصدي لأعدائها..
لا أعلم هل هو حُسن حظي، أم سوء طالعي، ما جعلني -قبل أيام- أجلس وجهاً لوجه أمام أحد المزايدين باسم الثورة، المتخوفين على الجمهورية والوحدة، بلا أدنى خجل مما قدمه لنفسه، وما يعرفه الناس عنه في هذا المجال.
لقد بدأت مزايدته من واسطة العقد -أي من الجمهورية- فلم يبدأ بالغمز واللَّمز والهمز، وهو يبدي استنكاره وامتعاضه من الرئيس عبد ربه منصور هادي، بل قفز إلى نهر مزايدته دفعة واحدة، وشرع في نقد رئيس الجمهورية، بدعوى أنه يكرر في أحاديثه مع من يلتقيهم وفي خطاباته، أن ما نعانيه وما نعمل على التخلص منه أو على محاصرته من سلبيات وتراكمات ومحبطات، تعود إلى نصف قرن أو خمسين سنة مضت.
كان يبدي تذمره ويتساءل قائلاً: لماذا خمسون سنة؟! لماذا تعاد هذه المعوقات والمحبطات إلى ما قبل خمسين سنة؟! هل الجمهورية والثورة، ما أحدث ذلك وتسبب فيه؟!
لم يجد من الحضور أي تجاوب لعلمهم بمن هو، ومعرفتهم بهذا الأسلوب في المزايدة ولرؤيتهم للندوب التي أحدثها هو ومن على شاكلته ونهجه في جسد الثورة، استمرأ الرجل يهذي ويهذي إلى أن أحسست أنه أوشك على الاقتراب من القول: إنه يخشى على الجمهورية من الرئيس عبد ربه منصور هادي، فقاطعته بالقول: إن كان ولابد من المزايدة بالجمهورية والخوف عليها، فاحصر ذلك على ما ألفنا منك ومن أمثالك تخويفنا بهم على الجمهورية والنظام الجمهوري كالزيدية والإمامة والإماميين..
أرى أن تبقى حيث ما تعودنا عليه، ولا مانع من أن تجمع كل ذلك في الحوثيين وأنصار الله، ولا داعي للقفز نحو رئيس الجمهورية، والخوف على الجمهورية من رئيسها، وما دمت تحدثت بما فيه الكفاية، فاسمع الشيء القليل.
أعتقد أنك في قرارة نفسك تعرف لماذا يشير الرئيس إلى أن ما نعانيه اليوم من محبطات تجعل الدولة المدنية حلماً بعيد المنال، يعود إلى خمسين سنة مضت، كما أن تلميذاً في التعليم العام يعرف أن شعبنا بالثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، قد امتلك قراره بإعلان «إنهاء حكم الملكية الإمامية وإخراج المستعمر البريطاني» فاخترنا النظام الجمهوري ورفعنا شعار الوحدة.
امتلكنا إرادتنا وقرارنا، واختيارنا، فكنا شطرين -شمال وجنوب- اختار الأول النهج الرأسمالي، واختار الثاني النهج الإشتراكي العلمي، أمضينا ثلاثة وعشرين عاماً من التشطير والاحتراب والتآمر والاغتيالات، والقطيعة بين الأهل الذين لا تواصل بينهم إلاّ عبر الإجراءات الأمنية الاستخباراتية المشددة، والضمانات والكفالات.. شطرٌ له نجمة خضراء، جعل الحزبية من المحرمات، فمن تحزب خان واستحق السجن وضيافة الأمن الوطني -ثم السياسي- مع توابعها، وشطر له نجمة حمراء اختار الحزب الواحد الذي لا صوت يعلو فوق صوته، ومن خالف ذلك استحق ضيافة أمن الدولة مع توابعها.
مررنا بعقود من التصفيات الحزبية القبلية أو «الحزبلية» وسقط الألوف من الشهداء والجرحى باسم التخلص من اليسار الطفولي واليسار الانتهازي والبرجوازية الرثة.. إلخ، ومررنا بعقود أخرى، من سيطرة القبيلة على الدولة وقبيلة الدولة، واستقدام الفكر الديني المتطرف باسم مواجهة التخريب والفكر اليساري الهدّام، وأُنشئت معاهد دينية لمواجهة خطر الإمامة ومحاصرة المذهب الزيدي الذي يقول بها، ولمواجهة الفكر الشيوعي الاشتراكي و«التخريب» وفقاً لرؤية أنه لن يواجه ماركس إلاّ محمد.. وهناك الكثير من التركات المتراكمة خلال سبع وعشرين سنة، والتي لم نتخلص منها، بل أقدمنا -مثقلين بها- على مشروع الوحدة، التي وجدت نفسها محاصرة بروح الهيمنة، ونزعة التصفية، والإقصاء والتهميش إلى أن قادنا واقع الحال إلى حرب صيف 1994م ثم حروب صعدة الست، التي قِيل إنها دفاع عن الجمهورية والثورة، كما قِيل عن حرب 94 أنها دفاع عن الوحدة والشرعية، أضف إلى ذلك ما شاب حياتنا من انفلات وتقطعات وقمع ديني مذهبي، وتهريب وتخريب للكهرباء والنفط والغاز، وكل ما تطاله يد الانفلات، ونفوذ من يرون أن نفوذهم ووجاهتهم، ومكانتهم، لا دوام لها إلاّ بسيادة تلك الفوضى وإضعاف الدولة، والدوس على مبدأ المساواة.
أعتقد أن هذا يكفي لتوضيح التراكمات السلبية والعوائق التي يشير رئيس الجمهورية إلى أنها قد تولّدت خلال خمسين سنة مضت، وورثها الوضع الانتقالي الجديد، فهل لازلتم تعتقدون أنه يقصد النيل من الجمهورية أولاً والثورة -سبتمبر وأكتوبر- ثانياً.. لقد صرت أخشى أن يصل بكم الحال إلى إعلان خوفكم من رئيس الجمهورية أن يغزو العاصمة صنعاء ومدينة عمران بقبائله ومليشياته..؟؟!!
دعوا الرجل وشأنه، وزايدوا إن كان ولابد.. بما تعودنا عليه من أعداء وهميين كالإماميين والعلمانيين، ومن تلحُقونهم بهم من شيعة وشيوعيين، ولا أقول هذا دفاعاً عن الرئيس، بل غيرة على عقول الناس من تمادي الاستخفاف بها.
شيء من الشعر:
مِن قَبْلُ أن يأتي الشروقُ
يَطوفُ حول سَنَاكِ سَبْعاَ
كانوا بكأسكِ ينفثونَ
وَيُِنُقَّعُونَ الموتَ نَقْعاَ