من الثوابت الحاسمة في المسار الوجودي والفكري للعلامة «ولي الدين عبدالرحمن ابن خلدون» أنه كان شاهداً كبيراً على تحولات عاصفة في عصره، ومجاوراً لها على المستوى الذاتي مرتين .. مرة عندما مات أهله وأقرباؤه جميعاً من جراء وباء الطاعون القاتل، والذي نجا منه ابن خلدون كما لو أنها صدفة دهرية ساخرة، ومرة عندما غرقت السفينة بعائلته وهم في رحلتهم البحرية للالتحاق به في الاسكندرية.
هذه الحوادث التراجيدية في حياته بدت كما لو أنها تُرجمان لمعنى الصُّدفة الغاشمة في الحياة، كما أومأت في ذات الوقت إلى معنى استمرارية الحياة وانبثاقها الضروري من دهاليز الدكونة العمياء التي كالشرنقة الكئيبة.. الواعدة بخروج فراشات الجمال الزاهي.. تلك الباحثة عن أعذب رحيق في أجمل زهرة.
أعتقدُ جازماً أن هذه المحطات كان لها دور كبير في رؤيته للتاريخ وتقلباته، وللممالك وتحولاتها، وللحياة في أفراحها وأتراحها.. وفي ظل تلك التحولات العاصفة خرج ابن خلدون من شرنقة ظلامه، ليحلق كفراشة أندلسية تتجوَّل بين مئات الأزهار الملونة، وترتشف من رحيق الحياة.
جملته اللغوية الباذخة، وتصنيفاته الفكرية المتنوعة، ومعارج انتقالاته الرشيقة بين المروج المعرفية الخضراء، أومأت للمعنى الذي حمله العالم الجليل.
كان موسوعياً شاملاً كعادة علماء ذلك العصر.. مُجسداً في ذاته القلقة الحائرة نظرية وحدة المعرفة، التي كانت دالة العلم والعلماء في ذلك الزمان، فقد كان ابن خلدون فقيهاً عالماً، ومتكلماً عارفاً بالملل والنحل، وأديباً لا يُشق له غبار، وفيلسوفاً رائياً لظواهر الوجود الظاهرة والمُسْتترة، ومؤسساً لعلم الاجتماع، ودارساً لسيكولوجيا البشر.. سبَّاقاً في التكشُّف على الانتربولوجيا الثقافية، ممهداً الطريق لجيل بكامله، من خلال نظرياته في إعمار الدول، والعلاقة بين البادية والحضر، ومعنى العصبية في ثقافة التحولات الدراماتيكية للمجتمعات، وكيفية انحلال الدول بعد نموها، وغيرها من نظرات.
Omaraziz105@gmail.com