سيرة ابن خلدون المقرونة بالتنقلات الأُفقية مكاناً وزماناً، كانت عاملاً هاماً في معرفته العالمة بثقافة عصره، وقامات تاريخه، فقد بدأ حياته في الأندلس ابناً نجيباً لأُسرة علم يمانية من أُصول حضرمية، وشاهد بأُم عينيه لحظات الأفول الكبير للمجد العربي الإسلامي هناك، وانتقل إلى تونس، ليبدأ بعد ذلك رحلة تنقلات لا تتوقف .. من تونس للجزائر ومنها لمصر .. في الاسكندرية أولاً.. ثم القاهرة، حيث وافاه الأجل عن عمر ناهز الخامسة والسبعين عاماً.
خلال وجوده في مصر كان شاهد حال على الغزو المغولي للشام، حيث زار بيت المقدس وبيت لحم، في مهمة عسيرة عصيَّة، فقد كان عليه أن يلتقي زعيم المغول «تيمورلنك» ليقوم بعمل استراتيجي، تناوَّله المؤرخون بكيفيات مختلفة، فمنهم من رمى ابن خلدون استنساباً وتسارعاً بتهمة التواطؤ مع العدو، ومنهم من أدرك المغزى العميق لزيارة ابن خلدون، فقد كان هدفه المركزي في تلك المهمة الثقيلة على النفس، صرف نظر تيمورلنك عن بلاد المغرب العربي، وقد شهد المؤرخون المنصفون بأنه تمكن من تحقيق هذا الهدف، ولم يكن متنازلاً أومشجعاً لتيمورلنك كما استوهم البعض .. والشاهد أن ثقافة ابن خلدون الرفيعة، ومعرفته الذكية بقوانين انهيارات الممالك والامبراطوريات ، واعتقاده الجازم بأن العصبية المقرونة بالحماس والتطيُّر من شأنها تدمير الممالك، وكذا الحال بالنسبة لأحكام قيمته التاريخية المعرفية المقرونة باسترخاء الدول في خواتم عهودها العُمْرية.. كل هذه الأسباب جعلته يحرص كثيراً على تذويب الحضور المغولي .. استناداً إلى البُعد الثقافي الكبير للعرب، وأن من الأجدى عدم مواجهة المغول الغزاة، بل تذويب مشروعهم القاصر في المشروع التاريخي العربي الإسلامي الكبير، وهذا ما حدث بالضبط، فلم يتمكن جانكيزخان الأول، ومن بعده تيمورلنك من تدمير الحضارة الإسلامية، بل التقوا بها، وكان تيمورلنك ومن والاه، من جندها الميامين، وصانعي حواضرها الكبرى في سمرقند ونواحيها.
Omaraziz105@gmail.com