كانت من أوائل الكلمات التي نطق بها ابني عُمر ذو العام والنصف هي كلمة «بح» بمعنى «اختفى أو غير موجود». كان هذا أمراً عادياً بل ومسلياً إلى أن أدركت لاحقاً أن هذه الكلمة مرتبطة في قاموس كلماته الصغير باللمبة أو إنارة المنزل المثبتة بالسقف. فأصبح لدى طفلي الصغير انطباع بأن الكهرباء ممكن أن تنقطع في أي لحظة وأن حاجة أساسية مثل الكهرباء غير مضمونة ويمكن في أي لحظة أن تصبح «بح». عندما أدركت هذه العلاقة شعرت بالحزن الشديد. أن ينشأ طفلي وكل الأطفال في اليمن في بيئة تعتبر فيها الأساسيات مثل الماء والكهرباء وحتى الأمن من الكماليات شيئاً محزناً بل ويدعو إلى الغضب، بالذات لأننا لسنا دولة فقيرة أو نفتقد إلى الكفاءات الوطنية التي يمكن أن تنفذ استراتيجيات تجعل من الكهرباء وغيرها من الاحتياجات الرئيسية متوفرة وليست «بح». من الأسباب التي يرددها الكثير من أصحاب «كلفوت» - الاسم الحركي لزعيم عمليات تدمير أبراج وخطوط الكهرباء وأنابيب النفط - أنهم يقومون بهذا من منطلق عليَّ وعلى أعدائي كرد فعل على السياسات التنموية الخاطئة التي تحرمهم من الاستمتاع مثلاً بالكهرباء في حين أن المحطة تقع في منطقتهم.
وبالرغم من أني لم أسمع هذا التبرير من أي منهم بصورة مباشرة ولا أدعّي أنني أعرف «كلفوت» هذا ولا أتعاطف معه إلا أنني أتفهم فكرة أن يُحرم الإنسان من شيء يعتبره مِلكَهُ ويرى غيره يستمتع به. وهذا ما يشعر به أيضاً الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية، وقد سمعتهم بنفسي أكثر من مرة يشتكون من المركزية الشديدة والفساد في إدارة موارد البلاد الذي أوجد انهياراً اقتصادياً وحرمان الكثير من المحافظات الجنوبية من أبسط مقومات الحياة بالرغم من أن تلك المحافظات غنية بالموارد وكان يمكنهم إذا ما أُستُغِلّت بشكل سليم أن تُعَيِّشهم في رفاهية ورخاء. لذا كان لابد من حلٍ جذري يأخذ من صلاحيات الدولة المركزية ويضعها في أيدي المحافظات... وهنا يأتي دور الفيدرالية.
وبالرغم من أن خيار النظام الفيدرالي لازال إلى حد كبير مرفوضاً لدى الكثير من الجنوبيين على اعتبار أن خيارهم الأول هو استعادة الدولة أو فك الارتباط، إلا أن ما استغرب له حقاً هو رد فعل الكثير من اليمنيين في المحافظات الشمالية الذين يظنون أن النظام الفيدرالي يعني تقسيم اليمن والتشرذم والانفصال. أولاً لو كانت الفيدرالية معناها التفكيك والانفصال إذاً لكان من الأسهل أن يتم إعلان أكثر من دولة وليس كياناً واحداً: له اسم واحد، علم واحد، عملة واحدة، جيش واحد...إلخ.
من العبط أن يتم تضليل الرأي العام - الذي هو أذكى من أن يغرّر به البعض بهذه الطريقة الفجة - ويتم تسويق الفيدرالية على أنها تقسيم للبلد، ومن أجل أن أسهم بدوري في توضيح الأمر للرأي العام؛ جاءتني فكرة هذا المثال: لنتخيّل أن اليمن أسرة كبيرة ممتدة؛ فيها أبناء كبار ولديهم زوجات وأبناء، أي أحفاد، كلهم يعيشون في بيت واحد، ولنفترض ـ على سبيل المثال ـ أن رب هذا البيت، أي الأب الكبير أو الجد، في نهاية كل شهر يجمع رواتب الأبناء التي يحصلون عليها من عملهم الخاص ليصرف منها على البيت الكبير، كما أن هذا الأب يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة ويتحكّم في شؤونهم الخاصة والعامة إلى درجة مزعجة؛ وعلى مدى سنوات طويلة كان هذا الأب يأخذ أموال الأبناء ليشتري بها مصاريف البيت وبعض الأثاث ويتخذ القرارات نيابة عنهم بشكل ديكتاتوري، ولم يكن عادلاً في أي شيء؛ لذا قرّر بعض الأبناء المتضرّرين من هذا الوضع التمرُّد؛ بل هددوا بالخروج من البيت، وبعد أخذٍ ورد وحوار لمدة عشرة أشهر تخلّله الكثير من النزاعات؛ توافق الجميع على أن يستمروا في العيش تحت سقف واحد بحيث يستقل كل ابن من الأبناء بشكل نسبي في قراراته ويتحكم بجزء كبير من دخله، واتفقوا أن تُتَخذ القرارات التي تؤثّر على جميع من في البيت بطريقة تشاركية بين الجميع، أما بالنسبة للقرارات الخاصة بعائلاتهم الصغيرة فهي من شأنهم، وفي نفس الوقت يشارك جميع الأبناء بمصروف البيت الكبير بحيث تذهب هذه الأموال إلى إيجار المنزل والفواتير بشكل عام ولمساعدة الأبناء العاطلين عن العمل أو أصحاب الدخل المحدود حتى ينعم الجميع بعيش كريم، وهكذا هي الفيدرالية التي يمكن تشبيهها بالطريقة التي قرّر أصحاب المنزل التعايش مع بعضهم البعض من خلالها لكي ينعموا بالاستقرار والخصوصية ورفقة بعضهم البعض كعائلة واحدة.
إنني أحلم بيمن جديد ينعم أبناؤه ـ بلا استثناء ـ بالعدالة والمواطنة المتساوية، وإذا كان النظام الفيدرالي هو الحل لتحقيق هذا في ظل الظروف والمعطيات التي نعيشها الآن؛ فكان بها.
أريد حياة مستقرة لابني عُمر ولكل أطفال اليمن بحيث لا يقلقون من انقطاع الكهرباء أو أي من مقوّمات الحياة الأساسية؛ بل يشعرون أنهم يعيشون في بلدةً طيبةً يعبدون فيها رباً غفوراً.