كانت جدتي قد بلغت من العُمر عتياً، وبدلاً من الإصابة بالزهايمر المعهودة لدى كبار السن كانت تزداد ألقاً في الذاكرة، وقدرة استثنائية على المُحاججة والمجادلة.. غير أن نقطة ضعفها الوحيدة تمثلت في مخاطبتها لموتى العائلة.. فقد تسأل من يأتيها بعد حين عن «أخبار موتانا» كأنها تسأل عن أحوال جماعة انتقلوا إلى مدينة أُخرى!!.
لقد بلغت جدتي نقطة التماس المعنوي والوجودي بالحقيقة الأزلية، وانتقلت قبل الأوان إلى برازخ الحياة الأُخرى.. بل كانت تتوق إلى اللحاق بمن تركوها من أبنائها وبناتها وأقاربها وتتعجل السؤال عنهم كأنهم يعيشون حياة غير أرضية موازية لحياتها.
قبل أن تصل إلى تلك المرحلة العُمرية الموصلة بالدهر، كانت جدتي من المشّائين الرائين لأحوال المكان والزمان، وكانت تقرأ في إشارات البشر وعيونهم معالم طريق لمستقبلهم المُبهم.. لكنها فيما كانت تفعل ذلك بدربة المتأمل الرائي، لم تتخل يوماً عن برغماتيتها الوافرة، فقد كانت مُربية لأحفادها، وتاجرة تمخر عُباب المحيطات والبحار، ومتدينة لا تقطع فرضاً أو سُنة، بل تُتبع الفروض والسُنن بجلسات استذكار وتسبيح مديدين.
والعجيب أن الزمن كان مطواعاً لخياراتها ونواميسها الكثيرة حتى كأن الليل والنهار يكتسيان أبعاداً أخرى ويتجاوزان الساعة الفيزيائية المُتعارف عليها.
في تراتب أيامها يتقاطع الكلام مع الصمت تقاطعاً أشبه ما يكون بمعزوفة انتهت لتوها وتركت المجال لرجع الصدى المفتوح على غياب مؤكد للأصوات النافرة، وفي أبصارها قدر موازٍ من الغياب الميتافيزيقي تجاه الصور المُجسدة بحيث تنفتح الأبواب والنوافذ على مرئيات مغايرة لفوضى النظر التقليدي للأشياء.
كانت جدتي أنموذجاً لكائنات الأثير الأولى ممن يمشون على الماء ويلتحفون الهواء ويغتسلون بالضياء.
Omaraziz105@gmail.com