في هذه الرواية الدائرية يخوض جابرييل جارسيا ماركيز منطقة غير مألوفة في الكتابة السردية، ففي هذه الرواية التي تمتد أحداثها إلى ساعات الليل والنهار، ويعتمد فيها السارد العليم على قصاصات أوراق الشرطة ذات الصلة بجريمة جنائية غرائبية، يعتمد السارد على فن كتابة السيناريو السينمائي، كما لو أنه يقدّم مشهداً بصرياً طويلاً، يتوّج ذلك المشهد الممتد بتلك الطعنات النجلاء للمقتول «سنتياغو نصار» ولكن لمجرد الاستيهام المقرون بإشهار القتل على كل سكان الحارة؛ على أمل أن تتم مراجعة ذوي النوايا بالقتل، ولكن لا حياة لمن تنادي.
تكمن الصعوبة الإجرائية في هذا العمل الفريد من المنطلق الوحيد المتاح لصياغته، وهي قصاصات أوراق الشرطة، كما تكمن أيضاً في دائرية الحدث، وبؤرة إشعاعه الأساس النابع من جريمة قتل يلتبس بها المقتول والقاتلان وأختهما، تلك التي لم تدَّعِ بأنها انتهكت من الضحية “سنتياغو نصار” بل كان الاستنتاج المباشر في اتهامه دون دليل، ناجماً من كونه أجمل ميت مقتول في الحارة، والأغرب من ذلك أن القاتلين اللذين عقدا العزم على تنفيذ الجريمة، تعمّدا إشعار الجميع بنيتهما؛ لعل وعسى أن يراجعهما أحد في الحارة ليوقفا مسار الدم، ولكن الجميع التزموا الصمت وكأنهم يقولون لهم: أنتما لستما أهلاً لقتل ذبابة..!!.
ومن روايات ماركيز الفارقة «خريف البطريرك» وهي أخطر رواية مكاشفة لماهية الدكتاتور في العالم الثالث المقيم في زمن الأوليغاركيا المُتخلّفة، وقد لجأ ماركيز في هذا العمل الملحمي إلى التلاعب بالضمائر، والتواري وراء غياب السارد العليم حيناً، والمونولوج المونودرامي أحايين أخرى، وامتشاق ناصية كتابة «توراتية» بالمعنى الجامع للغموض الماسي، والوضوح الصاعق.. كما تتبع سيرة الدكتاتور في مختلف أوجه تجلياته، نابشاً في تفاصيل التفاصيل التي تُظهر السيكوباتزم الجبري لهذا الكائن القادر على القتل بدم بارد، بالرغم من كونه عاشقاً يطارد محبوبته في الشوارع الضيّقة لمدينة البؤس والفاقة والحرمان، ويصوّر ماركيز في هذا العمل الكبير مفارقات الحياة، رائياً لمعنى الفقر الرث الداكن، والغنى الفاجر الجاهل، لنتبيَّن أن هذه الثنائية هي الحامل الأكبر للمعاني الكئيبة التي تنبجس من تضاعيف النظام الفردي الأتوقراطي.
وتصدّى جابرييل جارسيا ماركيز لأهم شخصية وحدوية تاريخية في أمريكا اللاتينية من خلال روايته بعنوان «الجنرال في متاهته» الجنرال هو القائد سيمون بوليفار، والذي مازالت رؤيته قائمة فيما سمّي لاحقاً بـ«البوليفارية الثورية الوحدوية» والتي مازالت شعاراً مرفوعاً في بلدان لاتين أميركا، في هذا العمل المهم لم يستجب ماركيز لدواعي التسجيل النمطي للسيرة السياسية المديدة للجنرال العتيد، بل تابع مصائر الإنسان الذي يُجازَى بعدم الوفاء، بتركيز بؤري على مسيرة أيامه الأخيرة عندما توافق المختلفون على إدارة ذلك الانقلاب الأبيض الغامض، مُستعينين بإدراكهم الضمني حالة الزعيم الرافض للعنف بين رفاق الأمس القريب، وخلال تلك المسيرة التي ترافقت مع إبعاد مُغلَّفٍ للجنرال، نكتشف تساقط الولاءات وتراجع المريدين واحداً تلو الآخر، ليغرق جنرال المتاهة الماركيزية في نوبات سعاله الحاد التي تتفاقم كلما طالت المسيرة، وازداد البرد وجفاء الأصدقاء، وليموت ببساطة لا تليق بقائد تاريخي، يموت سيمون بوليفار إثر نوبة سعال حاد، في كوخ بائس على طريق سفره صوب المنفى غير المحدّد؛ صوب اللا مكان.
هكذا يُكثِّف ماركيز مصائر أحد أكبر وألمع الزعماء التاريخيين في أمريكا اللاتينية، ليرينا سخرية القدر، وطبائع البشر الذين يجيدون التحلُّق حول موائد الشهد والعسل، والتخلّي الدائم عن المعاني والقيم.
Omaraziz105@gmail.com