عدّتُ إلى اليمن بعد غياب امتد إلى شهر كامل؛ لكنني رأيت الأوضاع هذه المرّة ليست كسابقاتها، الأيام الأخيرة بدت مخيفة ومظلمة، الانزلاق نحو المجهول يكاد أن يكون ممكناً في أية لحظة، البؤر مشتعلة شمالاً وجنوباً؛ وحتى داخل العاصمة صنعاء وهي تنذر بشرٍّ مستطير..!!.
ولا أظن أنني أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن ممارسات القوى السياسية كلها دون استثناء تجعل البلد على شفير حرب أهلية، فالبؤر المسلّحة تتوالد ويتسع نطاقها، وبعض الجهات الحكومية ليست معنية بهذا البلد، فهي معنية بأحزابها، والأحزاب معنية بما يأتيها من الخارج، والبرلمان يستعد لدخول موسوعة “غينيس” لطول المدة التي قضاها دون انتخابات ولم يعد قادراً على حل أزمة واحدة من الأزمات المتعدّدة.
نحن نعيش حالة من اليوفوريا؛ وتعني “سيكولوجيا الاعتباط العلني للشعب” وفي هذا السياق نحتاج إلى حكومة قوية قادرة على توظيف قوتها لاستعادة هيبة الدولة المُهدرة وسلطتها المستباحة، نحتاج لإعادة الاعتبار إلى الجيش والأمن بالشراكة مع الشعب لمواجهة الإرهابيين والقتلة حتى نستطيع في لحظات محدودة أن نحدّد اسم ومكان وجود كل من تسوّل له نفسه التسلّي باغتيال الضباط والجنود.
حينما تتوحّد الجهود الرسمية والشعبية؛ فإن الإرهابيين لن يجدوا لهم مكاناً بيننا، لكن ذلك لن يتحقّق مالم تشكّل حكومة وحدة وطنية يتمتع أعضاؤها بالقوة والأخلاق الحميدة والمثالية في حياتهم وأدائهم عبر التاريخ.
نحتاج إلى حكومة تضع الجانب الاقتصادي والأمني ضمن أولوياتها خاصة بعد الانهيارات الاقتصادية والأمنية، وأصبح الأمن مكشوفاً من تزوير العملات النقدية، إلى سرقة السيارات والاتجار بخطف البشر، كل شيء أصبح مباحاً ومتاحاً في مختلف أنحاء البلد بفعل مرتزقة باحثين عن أسباب رزق رخيصة يعملون تحت غطاء مراكز قوى نافذة.
إن اليمن تعاني مجموعة تراكمات من التقصير بحق الكثيرين من المواطنين وعدم إنصافهم، فقد أصيب غالبية الشعب باليأس السياسي نتيجة الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بالأزمة اليمنية، والمآل غير المشرّف لنتائج التغيير السياسي.
إذن الأزمة مازالت مستمرة، ورموزها الذين أوغلوا فيها مازالوا يتقاتلون؛ بعضهم غيّر تحالفاته الداخلية، وبعضهم غيّر راعيه الخارجي، والأهم في الأمر أن اليسار أصبح مع اليمين وتابعاً له، الذين حكموا في عهد الرئيس السابق أصبحوا أشد أعدائه، لكن أحداً من هؤلاء لم يغيّر موقفه بناءً على نقد ذاتي أو الاعتراف بالخطأ، ولم يعتذر عن الجرائم التي ارتكبها، الجميع يوغل في تبرير ما ارتكب، مرّة باسم الدفاع عن الجمهورية ومرّة باسم الطائفة، حتى الذين ارتموا في أحضان إيران لم يتراجعوا ولم يتعذروا عن فعلتهم؛ لديهم تبريراتهم التي تبيح التعامل مع الشيطان للدفاع عن الذات، نتفاخر بالعمالة للتغلب على المواطن الآخر.
التبعية والعمالة هي الكلمة المفتاح لأي دارس لتاريخ القبيلة والأحزاب السياسية في اليمن، حتى أصبحت الحروب التي وقودها اليمنيون هي انعكاس للأزمات والخلافات الإقليمية، وأنا لا أدعو إلى الانغلاق أو العيش داخل حدودنا الجغرافية وننعزل عن العالم؛ وإنما تكون علاقتنا بالآخرين وفق المصلحة الوطنية، فاليمن من الناحية الروحية والتاريخية والجغرافية والاقتصادية نضعها في مكان متقدّم ونفرض عليها أن تكون رقماً مهمّاً في هذه البقعة من الأرض.
ولست بحاجة إلى القول إننا بحاجة في الوقت الراهن إلى مواجهة الفساد بكل أشكاله وأنواعه، والعمل على إعادة صياغة عقل وتفكير الإنسان اليمني وتنمية شخصيته، إنه من المناسب الآن أن نعتمد على التخطيط والاستثمار في الإنسان بدلاً من قتله والزج به في معارك وهمية.
لماذا لا تدفع كل القوى السياسية نحو الاستثمار في الحياة بدلاً من الاستثمار في الموت والحقد والكراهية..؟! نحن بلد يمتلك الكثير من مقوّمات العالمية إذا نحن أخلصنا العمل للوطن والمواطن ووضعنا لأنفسنا رؤية علمية شاملة تقوم على المصالحة والتنافس بدلاً من الكراهية والصراع.
لقد انشغلنا بخلافاتنا، فانصرفنا عن التفكير في وضع تصوّر لمستقبل الوطن، نحتاج إلى بناء مؤسسات الدولة وهذا يحتّم على كل القوى أن تترفّع عن الصغائر، وأن تكون بحجم الوطن، علينا أن نسأل: ما الذي نريده في قطاع الصحة والتعليم والزراعة والثقافة والصناعة والرياضة، ماذا نريد لليمن خلال السنوات القادمة، وكيف نواجه العقبات..؟!.
sadikalkadi@gmail.com