الفاجعة الكبرى في حياة المجذوبة توازت مع انتشار مرض الجدري في تلك الأيام من ثلاثينيات القرن المسافر إلى فضاء الذاكرة.
مريوم المصابة بالجدري سقطت في وهدة الاحتمالات القاسية، فالمرض لا يشوّه الجسم فقط، بل يقضي أحياناً على البصر، وكان اليوم التاسع من الإصابة بمثابة اليوم الفصل الذي يُحدّد مصير المريض، فإما البقاء في نعمة الضياء والرؤية، أو الولوج إلى عالم العمى الداكن، وربما خرج المريض من تجربة المرض بعينين لامعتين، وربما فقدهما إلى الأبد.
في اليوم التاسع من الحالة كان لا بد لها من معانقة لحظة الذروة القاسية، وفي تلك اللحظة بالذات اشتعل جسدها ناراً حامية، وكان المصابون بالجدري يتمرّغون أمامها في محرقة التربة الساحلية التي تصل حرارتها إلى ما فوق الخمسين درجة مئوية.
كان طقساً علاجياً لا مفرّ منه، وألماً مُضنياً يتجاوز الألم، ووسيلة وحيدة للهروب المتاح، والتخلِّي الحُر عن الجسد المنهك بالقروح والصديد.
مريوم الفاقدة لميزان الأولويات العقلية لم تفعل ما يفعله أمامها المُتمرّغون المحروقون بهجير الرمال الحامية، بل أسرعت كالبرق صوب البحر راكضة كما لم تفعل من ذي قبل، ومنطلقة كالسهم الموجّه إلى هدف معلوم، ألقت بثقلها الكامل في ملوحة البحر، وكأنها تدرك أن تلك الملوحة المؤذية للجراح ستكون مُطهرة لها أيضاً؛ غير أن مشاهدي اللقطة التراجيدية لمريوم الغاطسة في بحر مالح تيقّنوا أنها قرّرت الموت مع المرض بدلاً من التسليم بحياة بائسة على يابسةٍ حارقة؛ لكنهم لاحظوها تسبح بعيداً بعيداً حتى اختفت بين ثنايا السراب البحري المعتم.
كانت الإشارة الوحيدة الصادرة عنها بقعة بيضاء متحرّكة تومئ إلى كمية الأردية التي طفت على سطح الماء لتؤكد للشهود أن مريوم مازلت تسبح حتى البر الثاني.
Omaraziz105@gmail.com