دارت الأيام دورتها المؤكِّدة على كروية الأرض والأكوان، وعاد ابن خلدون إلى مرابع صباه في اشبيلية، وكأنها سفرة عودة لتمهيد عظيم للاعتكاف المديد الذي استتبعه تدوين كتابه الكبير المُسمَّى «تاريخ ابن خلدون» والذي مهَّد له بمقدّمته الشهيرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس قروناً طويلة، ومازالت حتى يومنا هذا تعيد إنتاج مفاهيمها، تلك التي اعتبرها المؤرّخ العلامة ابن خلدون علماً منحه الله إيّاه.
قال: “اعثرني على علم” فرأى فيه حضرة التاريخ، وجاس به خلال الديار، وتجوّل عبره في مرابع البوادي والبراري والقفار، وتابع بنبض الذائقة وقوة المعنى؛ كيف تتوازى أعمار الدول مع أعمار البشر، بداية جنينية، ففتوّة شاطحة، فكمال عاقل، فشيخوخة واهنة، وانقراض لا مفر منه.
يمكن استعادة قراءة النظرات الخلدونية تجاه الدول ومصائرها في راهن الحالة اليمنية، ذلك أن المسافة بين الدولة الغائبة والدولة القادمة كالمسافة بين الفشل ومشروع الفشل؛ الصفة الأُولى تنطبق في أُفق ما على دولة ما قبل السقوط المدوّي، والثانية تنطبق على دولة ما بعد السقوط المدوّي.
وفي كلتا الحالتين نحن أمام صدمة مؤكّدة واستحقاق باهظ، عنوانه الأساس يتلخَّص في مشروع استعادة الدولة بوصفها الضامن لسير المجتمع بطريقة طبيعية، وهو أمر نفتقده في المراحل الانتقالية ما بين دولة الماضي المنحسرة، ومشروع الدولة الجديدة الحاضرة الغائبة.
لكن اختطاف الدولة من قبل القائمين في اللا دولة لن يوقف عقارب الساعة في الزمنين السياسي والمجتمعي؛ لأن الزمان قرين المُتغيّر الدائم، والمكان رهن هذا التحوُّل، ولهذا السبب كان الدهر بمفهومه الفلسفي التاريخي التعبير الأكثر واقعية عن مُتغيري الزمان والمكان، وبهذا المعنى ستشهد الساحة اليمنية المزيد والمزيد من التحوّلات المقرونة بمخاضات لا مفر منها.
Omaraziz105@gmail.com