أحياناً تكون الكتابة في المناسبات التاريخية دليل رغبة في إعفاء النفس من الخوض في الراهن والجاري من الأحداث، ويرجح هذا الظن عندما يكون الراهن موضع خلاف شديد واختلاف في الرأي حاد، لكن الظن يُبنى من اليقين حين يكون الراهن جارياً على الساحة الوطنية بينما المناسبة تخص حدثاً وقع على ساحة أخرى وميدان بعيد.
والحقيقة أن الأحداث الجارية هنا في اليمن تتجاوز الخلاف إلى الصراع والكثير منها يتعداه إلى الصدام وبعضها يصل درجة الحرب، وبالتالي فالخلاف بشأنها يتخطى النقاش والمحاججة إلى اشتباك بالكلمة يجرح ويدمي، بل إن أكثر الكلام الذي نسمعه ونقرأه هو استدعاء للسلاح ودعوة للاقتتال.
وفي هذا الاضطرام تختفي أصوات العقلاء وتتبدد في جلبة الديماغوغيين مشعلي الحرائق، وترى الناس يلبون داعي القبيلة ونداء الدين ويذهبون إلى الصالات والساحات حاملين بنادقهم ومحافظهم .. في عهد الإرهاب الذي تلا السنوات الأولى للثورة الفرنسية صرخ متفرج متحسر على الدماء: (أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك!!) غير أن صرخته تاهت في لبد الغيوم، فقد تواصل جريان الدم .. لم يتوقف حتى إذا فاض النهر في الحرب العالمية الثانية عصمت دماء الأوروبيين، إلا كثيرًا منها سال في البلقان خلال العقد الأخير من القرن الماضي، لكن الدماء في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ظلت حارّة دفاقة إما ثمناً للحرية بالنضال أو ضريبة على التمرد بالطغيان، ولم تزل القارتان الكبيرتان تنزفان دماً وعذاباً إلى اليوم باسم الحرية الأمريكية، وفي الواقع بحاجة المصانع إلى الوقود وشبق المصارف للنقود على أنه عند أصيل الاشتراكية أطل الدين المزيف متواطئاً مع الحرية الكاذبة في خديعة لا تكاد تختبئ حتى تكشف عن نفسها ومن ذلك الوقت بات للحرية شريك في تسويغ القتل وحق القول: (أيها الدين كم من الجرائم ترتكب باسمك!!).
قلت: إن الرغبة في إراحة البال من وجع الأشواك المزروعة في الراهن والجاري قد تكون سبباً في الانصراف عنه إلى مناسبات استقرت في ضمير التاريخ، والحق أدعي أن هذا لا يصدق على حالتي عندما أتوانى عن مناقشة أحداث حية جارية وساخنة إلى الحديث عن حرب أكتوبر وقد دارت طواحينها قبل أربعين سنة ووقعت بعيداً عن أراضينا وخاضها جنود غير جنودنا، لكنني في الحقيقة مستغرق هناك منذ شهور مهتماً على الدوام مغتماً أحياناً ومنشرحاً في أغلب الأحيان، فأنا أولاً مصري الهوى عروبي بالفطرة والطبيعة، على أن الاهتمام والغمة والفرح بما يجري في الشام أو مصر يشغل العرب كلهم.. ولي أن أذكر أن أسلاف أولئك الجنود الذين صنعوا ملحمة أكتوبر في مصر وسوريا قاتلوا هنا فوق أراضينا قبل نصف قرن دفاعاً عن حريتنا وانتصاراً لإرادتنا وصوناً لكرامتنا.
وإذ يعرف اليمنيون أن الجيش المصري خاض أعنف الحروب في وديان وجبال اليمن فإن كثيرين لا يعلمون أن الطيارين السوريين شاركوا في رد جحافل المرتزقة عن أبواب صنعاء خلال حصار السبعين الشهير.
وبالتأكيد كله ليس من أجل هذا يهمنا أمر سوريا ومصر، ولكنها الروابط القومية تجمع شعوب الأمة العربية وتوحد مشاعرها وإدراكها وحدة المصير.
ولا يضعف متانة هذه الروابط مواقف وأدوار أنظمة وقوى سياسية باعت نفسها للأجنبي وربطت مصيرها بمصيره.. إن وجودها يشكل عقبة أمام وحدة النضال لكنه لا يلغي وحدة المشاعر، وهي في المبتدأ والمنتهى تناهض الحرية وتقمعها في أقطارها وتصب عليها اللعنات إن عجزت عن شن الغارات ضدها أينما ارتفع صوتها وحيثما كان الذائدون عنها في البلدان العربية وفي أرجاء المعمورة إن استطاعت.. لا غرابة هنا أن يظهر الرجعيون في اليمن شماتتهم بمصر وسوريا على ما حدث في يونيو 67 وأن يكشفوا عنها بالوضوح كله غير آبهين بأن شماتتهم اللعينة جرح مهين لليمنيين الذين عذبتهم مرارة النكسة بقدر ما أفرحتهم نشوة النصر في أكتوبر.
تلك الشماتة لم يبرأ منها الرجعيون في مصر وسوريا وقد اعترف رجل دين مصري ذائع الشهرة أنه سجد لله شكراً على هزيمة الشيوعية في يونيو 67م.
وغير بعيد ما يفعله الآن الإخوان المسلمون والجماعات المتفرعة عن تنظيمهم في مصر وسوريا، حيث تشتد ضراوة الحرب ضد الجيشين اللذين رفعا هامة العروبة في ذلك اليوم العظيم والمجيد.
كان من لزوم التكتيك الذكي أن يخفي هؤلاء مشاعرهم من أجل تهدئة الغضب الوطني مما يفعلون فيعلنون في سوريا هدنة خلال الأيام التي توافق فترة الحرب ولو أنهم فعلوا من طرف واحد لأرغموا النظام على أن يلبي ويتجاوب لكي لا يخسر تعاطف الشعب معه .. وفي مصر كان بمقدورهم أن يصدرو البيانات الممجدة للذكرى وأن يكرسوا الكتابات على صفحات الفيس بوك والبرامج في وسائل الإعلام التي يمتلكونها بما فيها تلفزيون «الجزيرة» لكنهم على النقيض نزلوا الشوارع يهتفون ضد الجيش ويوجهون السلاح إلى صدور الشعب وليس لهذا من معنى سوى أن رسالتهم مقصود بها رعاتهم في الخارج كي يطمئنوا أنهم ما زالو قادرين على التخريب وكذلك ليتأكدوا أن نصر أكتوبر يمثل علامة سوداء في نظرهم تماماً مثل ما تنظر إليه إسرائيل والولايات المتحدة.
ولئن كان هذا موقف الإخوان المسلمين فإن تجاهل الدول العربية الذكرى يومئ إلى نكران، وقد يعبر عن الغيظ عند البعض.. إن التهاني المرسلة إلى المسئولين في القاهرة ودمشق لا تعني أكثر من أن ما حدث في أكتوبر شأن مصري وسوري مع أنه في حقيقته شرف كل عربي جدير بالاحتفاء في شتى العواصم والمدن.
ذلك أن جوهر ما في نصر أكتوبر أنه كسر نظرية الأمن الإسرائيلي بعد أن ظلت تعتقد أن جيشها لايقهر, رغم أنها لم تخض حرباً حقيقية قبل حرب 73م فقد قامت بفعل مؤامرة كونية وتواطؤ عربي معروف عنوانه ذلك الذي تولى قيادة الجيوش العربية بفصائلها المتناثرة وعتادها المتهالك .. وفي حرب 56م شنت العدوان على مصر ثلاث دول بينها اثنتان من الدول العظمى وأُمر الجيش المصري بالانسحاب من سيناء حتى لا يقع في كماشة بين الجيش الإسرائيلي في الشرق والجيوش البريطانية والفرنسية التي نزلت غرب القناة، ومع ذلك خاص المصريون معارك باسلة اشترك فيها الجيش ورجال المقاومة الشعبية, وعلى الجبهة السياسية والدبلوماسية أداروا معركة ناجحة وخرجت مصر منتصرة واستردت قناة السويس.